لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ معهد باستور بطنجة المغبون والمظلوم منذ 1910 (الحلقة 4)

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ معهد باستور بطنجة المغبون والمظلوم منذ 1910 (الحلقة 4) معهد باستور بطنجة سنة 1912 والدكتور بول ريملينغر (وفي الإطار - يسارا - لحسن العسبي)

سبق وأشرنا إلى أن ثمة اختلافا بين من يقول إن أول مؤسسة طبية حديثة بالمغرب، قد ولدت بالدار البيضاء، من خلال إنشاء المستشفى العسكري الفرنسي بالمدينة القديمة بها (السور الجديد) سنة 1911، وبين من يقول إن أول مؤسسة طبية حديثة، ذات خدمات لفائدة الصحة العمومية افتتحت بالمغرب، كانت بطنجة ابتداء من سنة 1910، المتعلقة بافتتاح معهد باستور (الأول من نوعه على مستوى أبحاثه العلمية الخاصة بكامل القارة الإفريقية حينها). دون إغفال إنشاء مؤسسات طبية أجنبية منذ نهاية القرن 19، التي كانت عبارة عن وحدات طبية دولية (إنجليزية، فرنسية، إسبانية وإيطالية)، التي تطورت نحو إنشاء مستشفى فرنسا بطنجة ومستشفى إنجليزي بطنجة، ثم لاحقا المستشفى الإسباني، في السنوات ما بين 1893 و1910. لكنها مؤسسات طبية كانت تابعة للسفارات الأجنبية الغربية بالمدينة، وتقدم خدماتها الطبية حصرا للأجانب من الأوروبيين وليس المغاربة.

 

هذا الاختلاف، هو في الحقيقة اختلاف بين وجهتي نظر، تتأسسان على مرجعيتين تأويليتين مختلفتين. مرجعية تقول إن الحديث عن مؤسسة طبية حديثة مفروض أن يكون مستندا على مؤسسة تقدم خدمات طبية مباشرة للمغاربة والأجانب (أي مستشفى)، والأخرى تقول إن مجرد الشروع في تقديم نتائج أبحاث مخبرية تحليلية، غير مسبوقة تهيئ مادة الاشتغال للتطبيب يمنح شرعية الاعتراف بأنه مؤسساتيا له السبق في التأريخ لبداية ميلاد أول المؤسسات الطبية الحديثة ببلادنا.

 

لكن، بعيدا عن هذا التقاطب التأريخي بين وجهتي النظر هذه، فإن قصة مؤسسة عالمية من قيمة "معهد باستور" بالمغرب تقدم مادة جد مغرية بالتأمل والقراءة والتحليل، ضمن هذا البحث الذي يحاول الوقوف عند قصة دخول الطب الحديث إلى المغرب، وما أحدثه من تغيير في الوعي العام، وكذا في البنية التحتية للصحة العامة ببلادنا، ضمن فضائها المغاربي والمتوسطي والإفريقي. وكيف أن خدمة الصحة العمومية شكلت سلاحا مؤثرا وفعالا ضمن خطة احتلال المغرب من قبل الاستعمارين الفرنسي والإسباني.

 

هكذا، فقد كانت بداية قصة ميلاد معهد باستور بالمغرب مثيرة نوعا ما، كونها كانت بسبب جريمة قتل بشاطئ "البلاية" بمدينة طنجة. نعم، جريمة قتل ذهب ضحيتها شاب فرنسي، ينحدر من منطقة "كروزو" (بالشمال الشرقي لفرنسا، وهي اليوم منطقة الصناعات الفرنسية للنقل من خلال مؤسسة "آلستوم" الشهيرة). وكان ذلك يوم 27 ماي 1906، واسمه ألبير شاربونيي. ومما تؤكده وثيقة حررها مدير معهد باستور بطنجة، ما بين 1911 و1956، الدكتور وعالم الأوبئة بول ريملينغر (الذي ولد سنة 1871 وتوفي سنة 1964، وهو خريج المستشفى العسكري فال دوغراس الشهير بباريس سنة 1893، بعد مناقشة أطروحته الجامعية سنة قبل ذلك بكلية الطب بليون)، فإن سفير فرنسا بطنجة آنذاك السيد رينو، قد قرر بدلا من طلب تدخل عسكري بحري للسفن الحربية الفرنسية للضغط على سلطان المغرب -كما جرت العادة بذلك منذ عقود من قبل كل القوى الغربية- من أجل فرض اعتقال القاتل ومحاكمته وتعويض عائلة القتيل، قرر أن يفتح مفاوضات مع السلطان مولاي عبد العزيز عبر نائبه بطنجة الغباص، من أجل منح الحكومة الفرنسية قطعة أرض بطنجة لإنشاء مؤسسة طبية بها. قبل السلطان المغربي مولاي عبد العزيز تلك الفكرة، لتحمسه أصلا لفتح مؤسسة طبية مختبرية علمية حديثة من قيمة "معهد باستور" فوق التراب المغربي، فسلمهم قطعة أرض مساحتها هكتار واحد (10 آلاف متر مربع) بهضبة مرشان، ضمن حي مرشان الشهير بطنجة. مع تسجيل ملاحظة هنا، أن بعض المراجع الطبية الإسبانية بالخصوص (مقالة للباحث فرانسيسكو خافيير مارتينيز أنطونيو)، تقول إن الأمر لم يتم تماما بذات الطريقة، بسبب تنازع بين ممثل السلطان والسفير الفرنسي.

 

تأخر انطلاق أشغال البناء، حتى سنة 1910، بسبب تأخر رصد الحكومة الفرنسية ومؤسسة باستور باريس للميزانية الضرورية لذلك. فكان أن فتح أبوابه للعمل سنة 1911، لكن تدشينه الرسمي كمؤسسة علمية طبية فرنسية لن يكون سوى يوم 14 يوليوز 1913 (احتفاء بعيد الثورة والاستقلال الفرنسي)، بعد انتهاء كل أشغال البناء والتجهيز به. رغم ذلك، فإن المعهد الذي سينال الشهرة والدور المحوري بالمغرب هو معهد باستور - الدار البيضاء، الذي لم يفتح أبوابه عمليا حتى سنة 1931-1932. والسبب واضح، لأن طنجة كانت منطقة دولية، ونفوذ الحماية الفرنسية على المغرب لا يشملها. بالتالي، لم يكن ذلك المعهد الكبير بطنجة من ضمن الخريطة الطبية المركزية لتلك الحماية، مثلما أصبح الأمر مع معهد الدار البيضاء.

 

لقد تخصص معهد باستور طنجة، منذ بدايته في الأبحاث المختبرية الخاصة بالسعار وبالأمراض المندرجة ضمن باب "الفيروسات العصبية". وتميز في كامل إفريقيا بدراسته لما يعرف علميا بـ "سعار خنازير غينيا"، وانتشار فيروس داء الكلب، وخاصيات الفيروس المسبب للذهان، ووجود مناطق خلايا مدمرة بسبب ذلك في الدماغ. ثم سعار الدجاج وسعار الحمام. والعلاقة بين "شلل لوندري" والسعار. ولقد نجح ذلك المعهد في تحديد العلاقة بين السعار وما يعرف بـ "جنون كلاب غرب إفريقيا السوداء" (لولو فاتو)، و"مرض نوم بقر الأرحنتين" (مال دوكاديراس)، وما يعرف ب "فيروس الثالوث المشلول". وقدم تحديدا مخبريا غير مسبوق لما يمكن تسميته "الطفح الجلدي الجنسي المغربي"، وكذا مرض التهاب الدماغ الأرجنتيني (الذي يصيب الأحصنة)، وخصوصا ما يعرف ب "مرض أوجسزكي" المتعلق بنوع من السعار يطال الكلاب وهو قاتل (لأنه مخفي ومرتبط بفيروس مرض جنسي لديها). ولقد مكن ذلك الاكتشاف العلمي لمعهد باستور طنجة، من أن تكتشف العديد من الدول الأوروبية بؤرا لانتشار ذلك المرض الذي يطال الكلاب والأحصنة والبقر في العديد من مناطقها الفلاحية، لأول مرة سنة 1918.

 

لقد مكنت أبحاث معهد باستور - طنجة، تلك، من تقليص آليات العلاج الخاصة بالسعار سواء لدى الكلاب أو الأبقار، وكذا لدى البشر، مما كان له أثر على مستوى اكتشاف اللقاحات الأكثر فعالية ابتداء من سنة 1930، طبقت بداية بالمغرب ثم تعممت على الجزائر وتونس وسورية ولبنان ودول الهند الصينية (أي كل المناطق التي تحتلها فرنسا آنذاك)، حيث حققت نتائج سريرية جد هامة، قبل نقلها إلى باقي مناطق أروبا وإفريقيا ابتداء من سنة 1934.

 

مثلما أنه أول مؤسسة مختبرية اشتغلت على تحليل الأمراض الوبائية التي تصيب شمال إفريقيا والمغرب، خاصة الجذام والجدري والتيفوس (خاصة النوع المعروف بالتيفوس الطفولي وعلامة اللسان). واشتغل كثيرا على ظاهرة تصيب النساء المغربيات اليهوديات تتمثل في الإصابة بضعف في بيوضاتهن وشكل تلقي النطف. على أن من أكثر الأبحاث دقة أيضا، التي أنجزها حينها معهد باستور - طنجة في العشرينات، هو تحديد أسباب ما كان يعرف بـ "حمى طنجة" في الأدبيات الطبية الأوروبية، والتي ليست سوى نتيجة لأثر رياح الشرقي القوية بمضيق جبل طارق، التي تؤدي إلى نوع من الحمى التي سببها خليط من السل والربو والالتهاب الرئوي، فحدد ذلك المعهد جينات ذلك كله مما مكن من تحديد بروتوكول أدوية قاومت تلك الإصابات الصدرية التي كانت تشتهر بها مدينة طنجة دون غيرها لقرون.

 

على أن أهم منجزات معهد باستور - طنجة الكبرى، إضافة إلى كل ما سبق، يتمثل في أنه كان أول مختبر تنجز فيه تحاليل الحمل بالطرق العلمية الصارمة أكاديميا في كل القارة الإفريقية منذ 1916. وأن الكثير من أبحاثه كانت المرجع للعديد من النتائج العلمية الدقيقة التي سيصدرها معهد باستور بباريس وتصبح بعدها مرجعا دوليا.

 

بينما معهد باستور - الدار البيضاء، الذي سيصبح المختبر الوبائي الرسمي للإقامة العامة الفرنسية بالمغرب، والفرع المباشر لمعهد باستور - باريس ببلادنا، فإنه لن يرى النور سوى بين سنتي 1930 – 1931، بعد أن أعطيت انطلاقة الأشغال في بنائه سنة 1929. ولقد أنجز على قطعة أرضية تبلغ مساحتها 750 مترا مربعا حينها (الآن هو أكبر مساحة)، وضم منذ البداية مصالح إنتاج الأمصال واللقاحات، ومصالح محاربة السعار، والمختبر البيطري، والمختبر الفيزيائي والكيميائي، ومختبر البكتيريا، ومختبر الطفيليات. وكان يعتبر الخزان الوحيد لكل ما يزود به معهد باستور باريس الإقامة العامة الفرنسية من أمصال ولقاحات مصنوعة في فرنسا. وبالأرقام، فإنه مثلا في سنواته الأربع الأولى (1932 - 1935)، قد زود مختلف المصالح الطبية بالمغرب ب 3 ملايين و820 ألف لقاح ومصل، و740 ألف لقاح ومصل بيطري، ومعالجة 3198 شخصا ضد داء سعار الكلاب، وتسليم 3 ملايين و510 ألف لقاح ضد سعار الكلاب لإدارة حفظ الصحة المركزية بالرباط. مع إجرائه أكثر من 112 بحثا مختبريا حول مختلف أنواع الأوبئة والأمراض (الفيروسية والطفيلية والبكتيرية) بالمغرب ما بين 1932 و1937 (المرجع في هذه الأرقام، وثيقة محررة من قبل مدير معهد باستور بالدار البيضاء جورج بلان تعود إلى نهاية 1937).

 

(في الحلقة القادمة تقرؤون: "أول راديو طبي حديث عمل بالمغرب كان للسلطان مولاي عبد العزيز سنة 1913")