محمد يسين: دندنة في زمن كورونا

محمد يسين: دندنة في زمن كورونا محمد يسين
ونحن في الشوط الثاني من تمديد حالة الحجر الصحي، الناتج عن جائحة كورونا، أو ما يسمى علميا ب "كورونا كوفيد 19" ، كان حَمُودَة يحتسي قهوته الصباحية، المنسمة بحبات من "القرنفل" والعسل الحر، نصيحة زوده بها أحد الزملاء الأطباء، لعلها تفي بمراد تضييع الفرصة على ذاك الفيروس، حتى لا يستوطن حنجرته...حين حسم الأمر في عدم تناول مختلف المضادات الحيوية لأمور يدركها ذوي الاختصاص.
مستمتعا في شرفته – مقهى كورونا - كما سماها لأجل توثيق راهنية الجائحة، في زمن الحجر، عصافيره المتنوعة، مزهريات بها ورود ونباتات، رائحة نبتة النعناع تؤثث الشرفة/المقهى، كتب هنا وهناك، تلكم كانت الوسائل الكفيلة في محاصرة وطأة الحجر الصحي، في شوطه الأول، بمقهى كورونا، حيث ركز "حمودة " على التحليق خارج الشرفة، تحليقا من نوع خاص، بمجاديف القراءة والسفر بدون تذكرة لعوالم أخرى.... أن تحلق خارج الشرفة، أن تتبختر بخطواتك بين الأزقة ساعة الحجر الصحي، أن تسافر دون تذكرة... تلك أمتع المتع.
تعددت استراتيجيات المواجهة، في المرحلة الأولى من الحجر الصحي، - يتذكر " حمودة " - من لزوم المنازل والتباعد الاجتماعي وترك مسافة أمان بينك والآخر، الآخر الذي كاد يحتل مرتبة شخصيات مسرحية "الأبواب المقفلة " لجون بول سارت (الآخر الذي اعتبره الكاتب ، هو جهنم) ،إلى وضع الكمامات واعتماد لوازم النظافة، التي وصلت حد "الهوس والوسواس"، لدى بعض الأفراد... وصلات إشهارية من هنا وهناك تطل عليك من كل حدب وصوب، ورسائل تتردد عبر الوسائل السمعية والبصرية والمكتوبة، لتفصيل المقال حول طرق الانتشار واستراتيجيات المواجهة لهدا الكائن المجهري، الذي تمكن من قلب مختلف الموازين، والخرائط على طاولات كل الحكماء ومدبري شأن البلدان والعباد من باب لا فرق على مسافة الكون المعمور برمته.
صاح عصفور "الكناري" من قفصه الجميل، يا عجوز، ما عهدناك مرابطا في الشرفة، بهده الوتيرة ، لا تغادرها إلا لماما ؟ ألم يحن بعد رفع الحجر عنكم معشر البشر؟ تفاجأ "حمودة " للسؤال رفع عينيه عن كتاب بين يديه، قال مبتسما: إنها "الكورونا "يا عصافيري، حتمت علينا إضافة الشوط الثاني، قلبت الموازين والمواثيق الكروية، رغم انتصارها الأولي. ورحيل الأعداد من بني البشر دون توديع أو تأبين، حتى الدموع جفلت من رموشها كالمعهود.
عقب طائر "الكالوبسيط " ذي اللونين الأصفر والرمادي، وقد رفع رأسه في وقفة شامخة على عمود ثبت داخل القفص: عمو، عمو حمودة، ما معنى "كورونا "، تلك التي يرددها أفراد الأسرة هنا وهناك:
أدرك "حمودة " أن الطائر التقط قولة للإبن الصغير حين صاح في وجهه " واش هاد كورونا ماتخليناش نخرجو أبابا "، استغرب "حمودة " لسؤال العصفور، عقب مبتسما: يقولون إن اسمها العلمي هو "فيروس كورونا المستجد "، لا، لا ، صاحت العصافير موشوشة فيما بينها، نحن نريد توضيحا، أو على الأقل ، نتأكد من وضعنا نحن الطيور من حيث قابلية الإصابة والمرض.
صاح حمودة، أنتم معشر الطير، تتميزون عنا معشر البشر بالإحساس بالخطر قبل حدوثه بحين، اطمئنوا فأنتم براء من الجائحة في الوقت الراهن... ذاك ما صرح به ذوي الإختصاص.
استطرد حمودة في التوضيح قائلا: يقول العلماء والخبراء في الميدان، إنه كائن فريد متفرد في صغره، في قوة انتشاره، في سرعة فتكه لبني البشر، سمته لا يبقي ولا يدر، كمحارب صنديد لا تعرف من أي جهة سيضرب.
واو،واو، صاحت عصافير حمودة، هو إذن جائحة كبرى.
ميزته الأساس - استطرد حمودة -إنه وحد في استهدافه لبني البشر، بين العربي والعجمي، الأبيض والأحمر والأصفر على مسافة المعمور تساوى لديه المستهدف في الجنوب والشمال والشرق والغرب، لا فرق بينهم سوى بما كسبت أجسادهم من مناعة قوية تصمد في وجه الإعصار على اختلاف مراتبه ومواقعه إلى حين.
ساد سكوت رهيب ، لبرهة من الزمن، في مقهى حمودة، وكأن الكل صام عن الكلام المباح، من هول الوصف والتوصيف...
تناهى لمسامع الكل، هدير سيارات الشرطة في الشارع العام من حي أكدال بالرباط، الخميس 17 أبريل 2020، كان الصوت عبر مكبرات فوق السيارة يصيح:
أيها الأعزاء، مواطنونا المحترمين، نناشدكم البقاء في منازلكم، لا تخرجوا لإلا للضرورة القصوى، الأمر ليس بالسهل، ساعدونا بالمكوث مع أسركم داخل المنازل، احترموا الحجر الصحي من فضلكم، هو سلامة لكم ولنا أجمعين.
تأكد "حمودة " كما استوعبت التنبيه عصافيره النبيهة، صاحت : لا عليك عمو، لك في الأسرة الصغيرة الملاذ وفي كتبك المتنوعة تصريفا للوقت، رب ضارة نافعة - عقب عليها حمودة - في حضرة على قهوته المفضلة ولعبة الشطرنج مع الرفاق، وصيحات النادل من هنا وهناك لطلب الخدمة، أو تقديم كوب ماء.
من غرفة النوم المجاورة للشرفة، كانت وصلات الأخبار، من القنوات التلفزية الدولية تحصي أعداد المصابين والموتى وأصبحت وسائل الإعلام الدولية لا تتناول إلا موضوع كورونا.
تعجب "حمودة" كيف لكائن صغير ، لا يمكن رؤيته إلا بمنظار خاص رفيع الدقة ، كائن – على صغره- أصبح يحكم العالم ويتحدى أقوى دوله وأنظمته .
حير العلماء المختصين في علم الأوبئة الذين لم يتمكنوا من الإعلان ولو عن مؤشر مبشر من اكتشاف مصل أو لقاح.
حتم على سيكولوجية الأوبئة أن تهتم بما تتركه الأوبئة والكوارث والجائحات من أثر نفسي، وتغيرات في تمثلات الأفراد والجماعات، وتغير سلوكياتهم جراء تغير تمثلاتهم لشتى الأمور، مما استدعى الكثير منهم لوضع خطاطات للتدخل تخفيفا من هول الجائحة.
توحدت العديد من التخمينات في ترجيح كفة وقوع تغيير جدري في النظام العالمي والعلاقات الدولية الاقتصادية والصحية على وجه الخصوص.
أدركت عصافير حمودة، حيرة الرجل العجوز الذي ابيض رأسه، وصار على قائمة الرؤوس المستهدفة بهذا الكائن الصغير، رددها في وجهه إبنه الأكبر غير ما مرة قائلا : ألْوَلِيد اجلس في مقامك بشرفتك، لكن قبل ذلك أكتب في المقاطعة الحضرية رخصة الخروج باسمي، لأنني سأتكلف بتدبير المقتنيات...استغرب حمودة قائلا ولماذا ؟ عقب الابن ، لقد أخبروا عبر وسائل الإعلام ، بأن كبار السن، عزيزين على هدا الفيروس،لقد وضعهم على رأس القائمة، وهو يردد قهقهة عريضة ، لكن لا تخف أبي ، هي مسؤوليتي الآن...دون أن ينبس ببنت شفة تمتم "حمودة " ، قائلا: الحمد لله أن لنا أولاد.
في شوطه الأول، وعبر خمسة أسابع، غيَر فيروس كورونا نمط العيش في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، على مسافة المعمور بدون استثناء،
في شوطه الثاني بدا التفكير ا في ما بعد مرحلة كورونا.فالعديد من التخمينات ترجح وقوع تغيير جدري في النظام العالمي والعلاقات الدولية الاقتصادية منها والصحية على وجه الخصوص. وبدأت معالم خريطة عالمية جديدة يتم التحضير لها على مستويات عليا، والتفكير في خلق نظام عمل دولي جديد يساير مختلف المستجدات... ذاك ما اتضح جليا في تخمينات الكثير من المتتبعين.
لكن الرأي الأساس يرجع لدوي الاختصاص على المستوى الصحي ، هم علماء الصحة والفيروسيات، درسوا، تأملوا ، استخلصوا العبر مما سبق ، بتحليلاتهم وسيناريوهاتهم وأصبحوا مؤثرين في مراكز القرار العالمية...حيث اتضحت معالم ثالوث تخميني عجيب لسيناريوهات المواجهة لجائحة كورونا
1- سيناريو يرجح التحكم في الوباء على المدى القريب،
2- سيناريو يشير إلى التعايش مع الوباء لفترة قد تعمر كثيرا،
3- سيناريو ثالث يجزم بصعوبة استشراف تطور الوباء، ليبقى الأمر مفتوحا على كل الاحتمالات الممكنة...
في آخر رشفة من فنجان قهوته ، أدرك حمودة، أنها أصبحت باردة بين شفتيه صاحت عصافيره:
عمو، عمو ، أين استقر بك المقام، ما رأيناك شاردا فيما مضى من الرفقة والعشرة؟
رفع "حمودة "عينيه اتجاه عصافيره، قائلا:
هلا كلم أحدكم ، حكيما من فصيلتكم، ليأتينا بالخبر اليقين، من الصين أو أمريكا أو بلد موليير وشكسبير ،عن أسباب " كورونا الرجيم "، وما ذلك بعسير على " هدهد " أتى النبي سليمان بالخبر اليقين من سبأ العظيم.
ويبقى السؤال منتصب القامة يمشي، ما دام الهدهد ، يطير على مسافة المعمور، لإدراك أصل وفصل كائن فريد في صغره، متفرد في قدرته على قلب خارطة العالم برمته، أهي ثورة العلم على الإنسان العالم، أم ثورة الإنسان العالم على الإنسان العاري، لست أدري. لست أدري، كان "حمودة " يرددها بعدد ما جاءت به في قصيدة " الطلاسم "لإيليا أبو ماضي، ذات خفض لها في مستوى الإعدادي.