عبد الهادي مزراري: عبد الرحمان اليوسفي.. أنت قلتها "طلقتها، ولا يجوز حديث عن مطلقة"

عبد الهادي مزراري: عبد الرحمان اليوسفي.. أنت قلتها "طلقتها، ولا يجوز حديث عن مطلقة" عبد الهادي مزراري

مات الرجل الذي شهد له المغاربة بنقاء يده وبزهده في السياسة والمال، وهو يتولى مقاليد الوزارة الأولى بين عهدين، عهد الملك الحسن الثاني رحمه الله، 1998-2002، وعهد خلفه الملك محمد السادس أطال الله عمره.

 

يحفظ المغاربة لهذا الرجل كل التقدير مع ذكريات ومواقف وافكار ينوه بها القاصي والداني، غير أن محطات من حياة الرجل لم يفهمها حتى المقربون منه، وظلت لغزا في حياته.

 

من الثوري الراديكالي المحكوم غيابيا بأقصى العقوبات في زمن المواجهات بين القصر والأحزاب، إلى المواطن السياسي المدافع عن الملكية من داخل وخارج أسوار القصر.

من انتمائه الاشتراكي على أبعد نقطة في المجرة اليسارية إلى الليبيرالي الأقرب إلى المركز .

من الانسان المؤمن بالحريات الفردية إلى الرجل الاكثر احتراما للعقيدة والمبدأ والأصول.

من السياسي الغارق في السجال الوطني إلى العازف بشكل مفاجئ عن السياسة وما يأتي منها.

 

لفهم شخصية عبد الرحمن اليوسفي رحمه الله، كان لا بد من اللقاء به والتحدث إليه، وطرح كل هذه الأسئلة عليه، ربما كان سيمتنع عن الجواب وربما كان سيجيب، ولو أن معظم أجوبته كانت مثل الحبل الذي يوصلك إلى منتصف الطريق مع ابتسامته التي لا تفارق محياه.

 

التقيت أول مرة به على متن طائرة كنا برفقته نحن مجموعة من الصحافيين عام 2001، وكنت أريد معرفة رأيه في ما كتبه أحد الصحافيين عنه وقد كال إليه من الانتقادات ما نسي مالك في الخمر، وكان رده كالتالي "لا تلتفت إلى كل من يلقي إليك بالحجارة فربما قصده ان تلتفت إليه".

 

من جوابه عرفت أن الرجل ليس ككل السياسيين الذين نعرفهم، إنه يتمتع بخلفية ثقافية تنعدم عند الكثيرين، وهذه الخلفية تجعله يتصرف بطريقة مختلفة.

 

لفهم عبد الرحمن اليوسفي لا بد من العودة إلى الملك الحسن الثاني، فهو الأقدر في زمانه على فهم تلك الخلفية الثقافية للسيد اليوسفي، والتجاوب معها في أبهى صور التعايش السياسي بين القصر وأشرس الأحزاب المعارضة.

عرف عن الحسن الثاني سداد البصيرة وبعد النظر، كان مؤمنا بأن الملكية في المغرب هي لكل المغاربة وانه بدون هذا الحزب او ذاك سيكون المغرب ناقصا أو ربما معاقا، وكان هدفه هو نزع فتيل المقاربة القنبلة بين أحزاب مع القصر وأخرى ضده.

طرح الحسن الثاني فكرة التناوب مع بداية التسعينيات وكان حينها حزب الاتحاد الاشتراكي قوة شرسة في المعارضة، وكان بإمكان الملك الحسن الثاني ان يقتصر على شخصيات اخرى في الحزب، لكنه أبى إلا أن يكون عبد الرحمن اليوسفي وليس غيره.

لم يعرف أحد سبب الانقلاب المفاجئ في العلاقة بين اليوسفي والحسن الثاني التي أصبحت علاقة حب وتقدير واحترام ووفاء. سئل اليوسفي عن سببها ذات مرة، فأجاب بعبارة أدهشت الكثيرين، "عطيتو العهد على القرآن".

 

هنا تسقط صفة السياسي والحزبي والمحامي والصحافي وكل الألقاب، ويظهر لنا رجل مغربي من عمق "التامغربيت"، التي كان بواسطتها يفعل السلف ما يعجز عنه الخلف، ويظهر هنا أيضا جانب آخر في شخصية اليوسفي المغربي القح الماسك بكلمته وعهده وشرفه حتى الرمق الأخير.

 

لم تكن فراسة الحسن الثاني لتخطئ، فاليوسفي كان الحارس السياسي الأمين الذي كتب عنه التاريخ انه شهد على نقل العرش من ملك إلى ملك في بلد ضارب في جذور التاريخ.

 

بقيادته الاتحاد الاشتراكي وقيادة أول حكومة للتناوب ساهم اليوسفي في إرساء عهد جديد للعلاقة بين الملكية والأحزاب السياسية، تلك العلاقة التي أمنت الطريق للمغرب كي يمضي بسلام لسنوات وعقود أخرى.

 

كان واعيا ليفهم بشكل جيد ان الحكم في بلد ما ليس كما يفهمه السياسيون من خارج المطبخ، وأن الاحزاب والانتخابات والبرامان، والديموقراطية بشكل عام ليس كما تصورها الدعاية في الدول الكبرى، وإنما الحكم هو مسؤولية وأسلوب وكلما قلت الإمكانات زادت عليك الضغوطات الخارجية في عالم تتصارع فيه الفيلة ويداس تحت أقدامها النمل.

 

ثاني مناسبة التقيت فيها اليوسفي رحمه الله، كانت خلال مشاركتي في تغطية وقائع قمة تجمع الساحل والصحراء في مدبنة سرت في ليبيا في ربيع عام 2002، وخلال هذه الرحلة تأكد لي أن الرجل مؤمن بنظام الملكية في المغرب إيمان العارفين، وليس إيمان الطامعين. حضرت أشغال افتتاح القمة، كانت الجلسة مغلقة، وكنت الصحافي الوحيد الذي أغلق الباب عليه وهو داخل القاعة ليشهد أطوار نقاش ساخن بين الوزير الأول المغربي عبد الرحمن اليوسفي والزعيم الليبي معمر القذافي.

طبعا، لم تكن المرة الأولى التي يلتقي فيها القذافي باليوسفي، فهو سبق أن استقبله مع رفاق في الحزب في السبعينيات من القرن الماضي كانوا يترددون على القذافي الذي كان يتوق لقلب النظام الملكي في المغرب.

في بداية الجلسة شن القذافي هجوما لاذعا على قادة الدول التي لم يحضر زعماءها للمؤتمر، وكان ضمن المتغيبين ملك المغرب محمد السادس، والرئيس التونسي زين العابدين بن علي، والرئيس المصري محمد حسني مبارك.

في أول كلمة نطقها القذافي للنيل من الزعماء المتغيبين الذين اكتفوا بإيفاد من ينوب عنهم، قاطعه عبد الرحمن اليوسفي، وقال له "لا أسمح سيادة الرئيس بهذه الملاحظة نحن هنا نمثل المملكة المغربية وملك المملكة المغربية"، ولم يكن للقذافي إلا أن رد على اليوسفي بالقول "حاضر حاضر  الأخ عبد الرحمن".

 

وفي مشادة ثانية تقدم رئيس نيجيريا بإدراج موضوع نزاع الصحراء في توصيات القمة، وثار عبد الرحمن اليوسفي وقال للقذافي "نرفض هذه الألاعيب وليس من أجلها نحن هنا"، وما كان للقذافي إلا أن أمر بإلغاء الاقتراح النجيري.

كان وزير الشؤون الخارجية والتعاون الأسبق محمد بنعيسى حاضرا خلال هذه الواقعة.

 

بكل صراحة انتابني فخر بوجود رجل دولة اسمه عبد الرحمن اليوسفي ضرب له التاريخ موعدا ليقول للقذافي في مسقط رأسه نحن ملكية وحدودنا ضاربة في عمق الساحل والصحراء.

 

لم يكتب لتجربة اليوسفي أن تستمر بعد انتخابات شتنبر 2002، وظل الرجل بالنسبة لي ظاهرة جديرة بالفهم، خاصة بعد رسالته التاريخية التي طلق فيها السياسة طلاق الثلاث.

 

كلما أتيحت لي الفرصة للاتقاء بزملائه في الحزب كنت أطرح عليهم أسئلة جانبية للاستفسار عما حدث، وفي إحدى المرات كنت في لقاء مع أحمد الحليمي العلمي عام 2005 وسألته عم يتساءلون.

كان جوابه كالصاعقة، وفهمت منه أن اليوسفي تعرض للخيانة من داخل حزبه ومن أقرب المقربين، وكانت المسافة بينه وبين أعضاء القيادة آخذة في الاتساع فهم يحملون أثقالا أبطأت خطواتهم في المسيرة، ويزرون أطماعا أعمت عيونهم عما يراه زعيمهم، فقرر التخلي عنهم.

 

في ثالث وآخر مرة التقيت فيها باليوسفي، خلال حفل خيري في ربيع 2017، بإحدى فنادق الدار البيضاء، جلست إلى جانبه وحييته ثم سألته: "سؤال واحد يحيرني، لماذا طلقت السياسة؟"

ابتسم كعادته وقال لي "أنت قلتها، طلقتها، والحديث لا يجوز عن مطلقة"...

 

رحم الله الرجل...