مصطفى العراقي: عبد الرحمن اليوسفي، توبقال المغرب

مصطفى العراقي: عبد الرحمن اليوسفي، توبقال المغرب مصطفى العراقي

وداعا سي عبد الرحمان

وداعا أحد قمم العمل السياسي بالمغرب.

وأنت تفارقنا اليوم في هذه الظروف الاستثنائية، لا يسعنا إلا الترحم عليك يا ابن الشعب ومؤسس الحركة الوطنية..

 

في تاريخ المغرب هناك "توبقالات" شامخة وضاءة تتربع على صدر التاريخ والذاكرة، تشكل ملتقى طرق الأحداث الكبرى ومفترقها. في مسارات البلاد السياسية ومحطاتها الرئيسية كان حضور هذه القمم مفصليا، منعطفا، تحولا، محورا لأي قراءة أو تحليل  لتحولات المشهد  الوطني  في عمقه وديناميته.

 

عبد الرحمان اليوسفي واحد من سلسلة هذه التوبقالات، رجل يحمل على منكبيه ستة عقود من الارتباط بقضايا وطنه. مقاوما من أجل استقلاله وتحرره، مؤسسا لخلايا تنظيماته النقابية والحزبية، محاميا مدافعا على المعتقلين السياسيين والملفات العربية العادلة، صحافيا مهنيا مرتبطا بحرية الرأي والكلمة، سجينا أكثر من مرة، محكوما بالإعدام بسبب مواقفه المطالبة بالديمقراطية، منفيا بشكل قسري، حقوقيا بارزا في المنظمات الدولية، خبيرا من خبراء حقوق الانسان، قائدا حزبيا ...

 

هو ثاني عشر وزير أول في تاريخ المغرب. وأول شخصية حكومية تحمل مثل هذا الرصيد النضالي.

 

ولد  اليوسفي بطنجة  في ثامن مارس من سنة 1924. السنة التي انتقلت فيها المدينة إلى الوضع الدولي بعد توقيع فرنسا وإسبانيا وإنجلترا لاتفاقية باريس. في مدينة البوغاز وأحوازها ترعرع طفلا يطل على آفاق تتنوع بين أعماق المغرب وبحره ومحيطه وجارته أوروبا التي توجد على مرمى حجر.

 

من بوابة الحركة الوطنية ضد الاستعمار انطلق مساره النضالي، انخرط في حزب الاستقلال منتصف أربعينيات القرن الماضي. وبثانوية مولاي يوسف بالعاصمة، كان قد أسس وهو أحد تلامذتها خلية محور مطالبها رحيل الاستعمار. امتد إشعاع هذا "التنظيم" ليستقطب من داخل المؤسسة وخارجها  شبابا رأوا أن واجب الوطن يناديهم. وجدوة النضال تستقطبهم, وبسبب ديناميكيته واتساع تأثير خليته، طاردت السلطات الاستعمارية التلميذ عبد الرحمان ورفيقه في الثانوية الشهيد المهدي بنبركة. ولم يجد ملجأ له سوى منزل شيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، الشخصية الوطنية وأحد رجالات السلفية المتنورين بالمغرب. ولإصراره على الاستمرار في التأطير قرر أن ينتقل إلى  آسفي ومراكش، إذ نسج علاقات مع شباب المدينتين   .

 

عند حصوله على الباكالوريا توجه عبد الرحمان اليوسفي إلى فرنسا ليتابع دراسته ما بين 1949 و1952، ويحصل على الإجازة في  العلوم السياسية. وكان من أنشط أعضاء جمعية الطلبة المسلمين بشمال إفريقيا بباريس التي تأسست في دجنبر من سنة 1927 من طرف التونسيين والجزائريين والمغاربة. وخلال هذه المدة بادر إلى تنظيم العمال المغاربة بالديار الفرنسية.

 

بعد عودته للمغرب انخرط في مهنة المحاماة وتسجل بهيأتها ليحمل بدلة الدفاع بمحاكم المغرب.  بالرغم من تواجد مكتبه بعروسة الشمال، كان شبه مستقر بالدار البيضاء ليوجه في السر خلايا للمقاومة، وخلايا العمل النقابي، خاصة بحي كوزيمار الصناعي بالحي المحمدي بالدار البيضاء. وأيضاً ليؤسس مدرسة "الاتحاد "الحرة، التي كانت واحدة من المدارس التي أسسها الوطنيون المغاربة لمواجهة التعليم النظامي الفرنسي   .

 

بموازاة مساري المقاومة والتعليم كواجهات لمناهضة الاستعمار، انخرط اليوسفي في مسار ثالث هو تأسيس العصبة المغربية لكرة القدم، التي انضوت تحت لوائها فرق الأحياء في مواجهة العصبة التي أنشأها الاستعمار الفرنسي. كما يعد أحد مؤسسي الاتحاد البيضاوي (الطاس) بالحي المحمدي بالدار البيضاء في نهاية الأربعينات.

 

ارتبط مسار حياة اليوسفي بمسار القوات الشعبية قبل الاستقلال وعند تأسيس اتحادها بعده. في كل معركة كان حاضرا في طليعتها، وعند كل محطة كان ملتزما بقراراتها. حكمة القرار هاجسه، وسداد الموقف شاغله. وحين نستقرئ "جريان" نهر الحزب الذي أسسه مع ثلة من المناضلين سنة 1959 كان ابن طنجة أحد صناع مجراه وناحت أبرز منعطفاته.

 

بين القصر والاتحاد، كانت هناك منذ أكثر من أكثر من نصف قرن، تصورات ونقيضها، مواقف وضدها...

 

كان الحقل السياسي بين هذا الحزب الذي تأسس في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي وبين المؤسسة الملكية، متوترا في محطات ومراحل ومجالات عدة، تعد الحرب الضروس التي شنتها بعض أطراف القصر ضد حكومة عبد الله إبراهيم والاطاحة بها في بداية الستينيات، البداية الفعلية للصراع بين الطرفين. تلتها معركة دستور1962 الذي جاءت به المؤسسة الملكية من جيب خبراء أجانب، الفرصة لكي يحدد حزب القوات الشعبية تصوره للملكية ولفصل السلط ولمتطلبات الديمقراطية، وهي قضايا جاءت في الدستور "الممنوح" أقل بكثير من مطامح الشعب المغربي. في الدعوة للمقاطعة أسس الاتحاد خطابه على رفضه للدستور الممنوح معتبرا أنه يفتح الباب واسعا للحكم المطلق. وبالمقابل عبأت المؤسسة الملكية كل أتباعها وإمكانياتها وآلات تزوير الارادة الشعبية كي يتم الاستفتاء بنسبة تقارب الـ ـ99.99 بالمائة. قاد عبد الرحمان اليوسفي جريدة "التحرير" التي شكلت الدرع الاعلامي للاتحاد في مواجهة خصومه السياسيين.

 

وحتى عندما تبنى  الحزب "استراتيجية النضال الديمقراطي" في مؤتمره الاستثنائي (يناير 1975)، بعث اليوسفي برسالة صوتية من منفاه بفرنسا إلى هذه المحطة التنظيمية المفصلية يؤكد فيها أن لا قيادة للحزب سوى قيادة الداخل التي ستنبثق عن المؤتمر، وشدد فيها على أن يتصف من سيتحمل المسؤولية بالنضالية فالاتحاد "يتوفر على أجود ما في البلاد من قيم أخلاقية وبطولات نضالية وكفاءات فكرية". لم تر المؤسسة الملكية هذا التحول الذي أقره الحزب بعين الثقة. بل استمرت حروبها ضد حزب القوات الشعبية .

 

طيلة نصف قرن كان الحقل الاجتماعي أشهر مجال للصراع من خلال نضالات الحركة النقابية في إضرابات قطاعية ووطنية نذكر من بينها ما عرفته الستينات في الوظيفة العمومية، وإضرابات السبعينات، وخاصة في قطاعات السكك الحديدية والصحة والتعليم في سنتي 1978 و1979 وإضراب 20 يونيو 1981، و1990...

 

وطيلة أربعة عقود كانت إلى جانب المعركة السياسية والاجتماعية، ترسانة قوانين تم من خلالها الزج بمئات الاتحاديين وغير الاتحاديين في السجن، أشهرها ظهير "كل ما من شأنه". لقد تعددت حقول الصراع الذي كانت من أبرز الأدوات التي استعملتها المؤسسة الملكية فيه: وزارة الداخلية التي شكلت لسنوات القوة الضاربة للقصر، برجالاتها مطلقي الصلاحيات أبرزهم اثنان مارسا البطش والقمع ضد الشعب المغربي وهما الجنرال محمد أوفقير وإدريس البصري.  البصري كان وزير أم الوزرات منذ منتصف السبعينيات إلى بداية الألفية الثالثة. وشكل منصبه ملف الصراع بين الكتلة الديمقراطية عند المفاوضات لتشكيل حكومة سنة 1993 وهي المفاوضات التي أجهضت بسبب تشبث الراحل الحسن الثاني بوزيره.

 

 الأداة الثانية كانت الانتخابات نذكر من بينها تلك التي جرت سنة 1993 سنة بعد تسلم اليوسفي الكتابة الاولى للاتحاد الاشتراكي بعد وفاة  عبد الرحيم بوعبيد (يناير 1992). لقد تدخلت وزارة الداخلية بشكل فظيع في صنع الخريطة الانتخابية خاصة خلال الاقتراع غير المباشر لاختيار ثلث أعضاء مجلس النواب. وهو ما حذا باليوسفي إلى الاستقالة من منصب الكاتب الاول احتجاجا والذهاب إلى فرنسا قبل أن يعود عشية إقرار دستور جديد أقنع رفاقه في الحزب بالتصويت لصالحه باعتباره يدشن لمرحلة جديدة كانت محطتها الأولى تشكيل حكومة التناوب الديمقراطي التي أسندت وزارتها الاولى إلى عبد الرحمان اليوسفي في فبراير 1998... في عهد اليوسفي كان الصراع حول اختصاصات الوزير الأول قويا، وهي الاختصاصات التي قيد جزء منها الدستور وجزء آخر سلبته "أعراف وتقاليد" مخزنية. من بين المجالات كان ملف التعيينات في المناصب السامية، الولاة والعمال والسفراء ومدراء المؤسسات العمومية وحتى الوزراء.

 

في محاضرة شهيرة له ببروكسيل التي مر عليها اليوم بالضبط تسع (سنوات مارس 2003)، طالب عبد الرحمان اليوسفي بتطبيق بنود الدستور (دستور 1996) في اتجاه نقل أكبر عدد من الصلاحيات التنفيذية الى الوزير الاول والحكومة التي يرأسها، وأول ما يجب في هذا الصدد هو عدم التمسك بمفهوم "وزراء السيادة " غير المنصوص عليه في الدستور، وبالتالي إسناد كل الحقائب الوزارية بدون استثناء الى الاحزاب المؤهلة للمشاركة في الانتخابات، الشيء الذي لن يضر بأي شكل من الاشكال بالتوافق بين الوزير الأول الذي يقترح أسماء الوزراء على جلالة الملك، وبين جلالته الذي يعود إليه قرار تعيينهم تطبيقا للمقتضيات الدستورية"؟

 

محاضرة الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي أثارت كذلك قضية خلافية حصلت عقب انتخابات شتنبر 2002 والتي تبوأ فيها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية نتائج الانتخابات التشريعية، إذ عين الملك محمد السادس السيد إدريس جطو الذي لم يكن ينتمي لأي حزب سياسي بدل أن يزكي اليوسفي في منصبه باعتباره كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي. هذه القضية اسمها "المنهجية الديمقراطية".

 

في نفس المحاضرة يقول اليوسفي: "إن المنهجية الديموقراطية كانت تقتضي أن يعين جلالة الملك الوزير الاول من بين (اعضاء الاتحاد الاشتراكي الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد والأصوات) بالرغم من أن النص الحرفي للدستور يخول له حق تعيين الوزير الاول فقط، غير أن هذا لا يمنع- حسب روح الدستور، ونظرا للممارسة التي دشنها التناوب - من أن تعود الوزارة الاولى للحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد (الاتحاد الاشتراكي 50 مقعدا، الاستقلال 43، العدالة والتنمية 42 والتجمع الوطني للأحرار 41، في حين حصلت الحركة الشعبية على ما مجموعه 45 مقعدا والاحزاب الاخرى حصلت على ما بين مقعد 1 وأقل من 20 مقعدا). ومن البديهي، حسب النتائج أن الناخبين صوتوا من أجل عودة الاغلبية الحكومية وقيادتها، وذلك بتزكية الحكومة السابقة".

 

لقد وضع اليوسفي وحزبه الأصبع على مواطن الخلل في الدستور والممارسة الدستورية، وهو التشخيص الذي أخذ به الدستور الحالي (فاتح يوليوز 2011). ودون شك فإن عملية تنزيل الدستور أو لنقل تفعيل الدستور ستحدد ما إذا كانت مساحات الصراع مع المؤسسة الملكية ستتقلص أم ستفتح جبهات دستورية جديدة؟