سفير : التكنوقراط واستحالة النموذج التنموي المغربي

سفير : التكنوقراط واستحالة النموذج التنموي المغربي  سفير عبد الكريم

"التقنية لا تفكر"، مارتن هيدغر

لا يتعلق الأمر باستباق الأحداث أو الحكم على النتائج قبل المقدمات، بل بالنظر في أساس تلك المقدمات أصلا لاستخلاص النتائج والدروس.

ولنبدأ أولا بوضع سؤالين مركزيين يتحاشى الجميع وضعهما في هذا الظرف الحساس جدا من مسار اشتغال لجنة النموذج التنموي المغربي. هذا العمل الذي سترهن محرجاته مصير المغرب في الألفية الثالثة. وربما لهذا الاعتبار أتناول الكلمة اليوم للتفكير بصوت عال مع جميع الضمائر الحية في البلاد لوقف النزيف بعدما تبين لي شخصيا أننا لم نحد عن طريق النزيف بعد.

فما هما السؤالان أو المدخلان لحديثنا هذا؟ أولا، من يفكر؟ ثانيا، من ينفذ؟

إن الناظر في التركيبة المعرفية والعلمية والثقافية لأعضاء لجنة النموذج التنموي سيندهش من حجم ونوعية الكفاءات المحلية والمغتربة المشاركة فيها، لكن عند التمحيص فيها سنجد بأنها فقط تلك الشجرة التي تخفي الغابة. فأول ما يميز هذه التركيبة هو هيمنة التكنوقراط على تركيبتها. قد يقول قائل، وما العيب في ذلك؟ أليس التكنوقراط حاملون لمعرفة علمية وتقنية نحن في أمس الحاجة إليها؟ هذا جواب لا يمكننا الاعتراض عليه. وهو جواب يحمل في طياته مبادئ نفيه. إنهم حاملون لمعرفة علمية-تقنية وليسوا منتجين لها وليست لهم القدرة على إنتاجها. فالمسار التكويني للتكنوقراطي في العالم بأسره هو مسار رجل تقني مهمته الأولى ليست هي إنتاج المعرفة بالموضوعات التي يشتغل بها، وإنما تنفيذ المخططات والبرامج التي تسند إليه ويتكفل بتنفيذها كما يحاسب على مستوى إنجازه فيها. فمن يفكر إذن للتكنوقراطي ومن يقدم له البرامج والمخططات قصد تنفيذها؟ إنه المفكر ثم السياسي. وفي حالة المغرب فالأمر مقلوب رأسا على عقب. فمن ينتظر منهم التنفيذ وهم التكنوقراط وضعوا في مقدمة العربة وأعطيت لهم صلاحية المفكرين والسياسيين وصار هؤلاء مجرد منتظرين ومتفرجين على المشهد. ليست المشكلة والحالة هذه في التكنوقراط بل فيمن أسند لهم مهمة التفكير في قضية مصيرية هم أبعد الناس عن التفكير فيها ولم تكن في يوم من الأيام مثار اهتمامهم وتفكيرهم وعملهم واختصاصهم.

فما المطلوب إذن؟ المطلوب هو إعادة الأمور إلى نصابها وإعطاء كل ذي حق حقه حتى لا نحاسب أناسا على خطإ قادم لم يقترفوه وإنما زج بهم إليه زجا. فمهمة التفكير ووضع الأسئلة واستشكال الموضوعات والبحث وبناء الأطروحات وتقديم الوصفات هي مسؤولية المفكرين من الفلسفة والتاريخ والعلوم الإنسانية والاجتماعية والأدب والفن، أي ذوي بعد النظر والإلمام الفلسفي والتاريخي بمسارات الفكر والحضارة والتقدم. فأي نموذج تنموي يجب أن يكون متجذرا في البنية التاريخية والثقافية والاجتماعية والنفسية والأنثربولوجية للمجتمع الذي يريد إصلاحه، أما إسقاط أو نقل تجارب الآخرين فلن يفيدنا اليوم كما لم يفدنا بالأمس. وهذه مهمة أبعد ما يكون عنها التكنوقراطي. قد يعترض معترض مرة أخرى بالقول إن من بين أعضاء اللجنة أناس من بعض التخصصات التي ذكرت وأن اللجنة قد دشنت سلسلة مشاورات وطلبت وجهات نظر العديد من الفاعلين بمختلف مشاربهم الفكرية ووضعت بوابة إلكترونية لتلقي المقترحات من جميع الهيئات والأفراد في إطار حكامتها وسياستها التشاركية. صحيح، لكن المشكل ليس في هذه المسلكيات بل في التصور التقني الذي يحمكم توجه اللجنة والذي سيحول كل مقترح إلى كيفية من كيفيات العمل التقني المكتبي، وهكذا سيتم إفراغ كل المقترحات من جوانبها الفكرية والثقافية وتقزيمها لتتلاءم مع الكيفية التقنية التي يجب أن تتمظهر بمظهرها في نهاية المطاف.

هل يمكن لهذه اللجنة أن تفكر مثلا انطلاقا من نموذج تنموي حداثي معاصر؟

يجب ألا نحمل الأشياء أكثر مما تحتمل. ولا يجب علينا توقع حصاد ما لم نزعه. فالوثيقة الدستورية المؤطرة لهذا العمل ترسم الأفق المثالي لأي نموذج تنموي أو غيره. ذلك أن التأرجح بين خيار الحداثة والتقليد أو ما يصطلح عليه بالوفاء للأصالة والتطلع الدائم للمعاصرة أو التوفيق بين الحداثة والتقليد، هذا الخيار الذي يوضح بجلاء الاختيار الاستراتيجي للدولة والمجتمع، وهو اختيار للأصالة أي الماضي والتقليد يصعب معه بل يستحيل معه تصور أي نموذج تنموي قادر على نقل المغرب من الماضي القروسطي الذي ما فتئ يعمل على إعادة إنتاجه في جميع مؤسسات الدولة والمجتمع إلى الحداثة والمعاصرة واللحاق بالركب الحضاري للأمم الراقية. لسبب بسيط ووجيه وهو أن الحداثة والمعاصرة ليست هي الاختيار الاستراتيجي للدولة والمجتمع إلى حد يومنا هذا.

يبدو أننا نفكر في الإصلاح دون القدرة على التفكير في إصلاح ما سيسمح لنا بالإصلاح وهو الدستور الذي يجب أن ينص صراحة على تبني خيار الحداثة كخيار تاريخي استراتيجي لإصلاح الدولة والمجتمع. وفي غياب ذلك فإننا لن نعمل إلا على المزيد من إضاعة الوقت والجهد والمال من أجل أن نقول بعد ثلاثين سنة أو أقل بأن هذا النموذج التنموي قد فشل وعلينا أن نبحث عن نموذج جديد وهكذا دواليك. وليس مشكل إصلاح التعليم ببعيد عنا فمنذ نصف قرن تقريبا ونحن نصلح لدرجة يمكن القول معها أن ما بين الإصلاح والإصلاح إصلاح حتى صرنا إلى إصلاح الإصلاح والذي لن ننتهي منه أبدا لنفس العوامل السالفة الذكر.

هناك طريق قد يقرب المسافة وهو تأويل الوثيقة الدستورية تأويلا حداثيا، وهذا ممكن انطلاقا من ديباجتها التي هي جزء لا يتجزأ من الدستور بحيث نجعل من التقليد تاليا أمام الحداثة كما نجعله رافدا لدعم الحداثة وليس لعرقلتها وهنا سنكون قد أسدينا خدمة جليلة لمستقبل بلدنا.

                                                   سفير عبد الكريم، مفتش وباحث في الفلسفة