أحمد الرياضي: كورونا.. سؤال المعنى في سيميائية الخطاب

أحمد الرياضي: كورونا.. سؤال المعنى في سيميائية الخطاب أحمد الرياضي

من خلال المتابعة والقراءة لمنحنيات الوضعية الوبائية لفيروس كورونا، يمكن طرح العديد من الأسئلة التي تبحث عن المعنى الضائع وسط ركام المعطيات، من أجل تضميد وضعية الانجراح التي يعيشها الفرد في الزمن الكوروني، وكأن كورونا جعلت الأنا والآخر يعيش فترة مراهقة بين الضياع والوجود، يبحث عن نقطة ضوء من أجل الخروج من كهف هذا الفيروس، مثله مثل مراهق يعيش أزمة المراهقة -على مستوى بناء الهوية- تلك التي رسم تفاصيلها مارشيا Marcia مستندا على دراسات إريكسون، حيث المعنى يشير إلى الآتي:

 

- هناك من لم يمر بأزمة ولم يكوّن هوية ولم يكتشف الخيارات بين المتناقضات، حيث يكون الفشل بالإلتزام، والثاني لم يمر بأزمة لكنه تبنّى معتقدات جاهزة من الآخرين دون الاختبار فيعيش الانغلاق، وهوما يماثل عملية التوحد في مرحلة الطفولة المبكرة، في حين هناك من مرّ أو يمر بأزمة ولم يكوّن بعد هوية، بمعنى أنه خبر الاحساس بهويته، لكنه يعي وجود أزمة على مستوى هذه الهوية ويسعى للاكتشاف، إلا أنه لم يصل بعد إلى تكوين الهوية. أما الأخير فهو الذي مرّ بأزمة الهوية، فانتهى به الأمر إلى تكوين هوية واضحة وهنا يتجسد الالتزام.

 

- إن حالة الارتباط بين المنحنيات والمراهقة والهوية والمرض والنقاهة هي من أجل توضيح بعض من البياض ليس إلا.

 

ومنه يتضح من خلال الاستكشاف والاختبار والالتزام تحديد نوع الهوية في زمن كورونا، حيث إن البحث في سيميائيات الخطاب حول الخروج من الحجر الصحي شبيه بالبحث في آليات الخروج من فترة النقاهة/ المراهقة، بحثا عن هوية الصحة من المرض، تلك التي تتطلب ما يستوجبه بناء الهوية حسب مارشيا -بناء على دراسات إريكسون- من آليات دينامية، حتى لا يتعرض الفرد لسؤال أزمة المرض، حينها يصبح البحث عن سؤال هوية المرض والصحة بدون معنى من منطلق أنتروبولوجي.

 

ذلك أن سؤال المرض والصحة في ظل تمديد الحجر الصحي وحالة الطوارئ، يستدعي القراءة في الإشارات والعبارات والاستعمالات اللغوية التي أنتجتها كورونا، إذ توحي بنوع من الغموض والاستهزاء، مما جعل أفرادا ومجتمعات في الزمن الكوروني بدون هوية، وكأن الأمر يرتبط بفترة من فترات النمو، تلك التي يعيش فيها الفرد تحولات على مستوى النفس والجسد في العلاقة بالذات والآخر بحثا عن ميلاد الهوية.

 

إن هذه القراءة تحيل إلى لسانيات دوسوسير، ذلك الذي بشر بميلاد علم اللسانيات، في إحدى محاضراته حين قال إن: "اللغة نظام من العلامات التي تعبر عن الأفكار". عن طريق آليات التواصل، بمعنى دراسة الوسائل المستخدمة للتأثير والتواصل مع الغير، وفق النموذج الذي رسمه ياكوبسون، حيث تصبح اللغة جسرا أساسيا  لنقل المعرفة من أجل تشريح  دلالات السمات الكامنة في كهوف اللغة.

 

بعيدا عن هذه التفاصيل الدقيقة، في ارتباط بالواقع المعيش، يتعرض القارئ لرسائل الخطابات في زمن كورونا  لنوع من الغثيان، حين يبحث في العلامات والإشارات والاستعمالات التي تنقل المعنى من أجل الإشارة إلى حمولات معينة، حيث تتحول العلامة في سياق الزمن الكوروني إلى علامات ذات دلالات، تحتاج إلى تفكيك في فينومينولوجيا إدراك الوعي ومعرفة الذات، حسب إدموند هوسرل على مستوى دراسة  الظاهرة من خلال الوعي بوجودها.

 

ومنه فإن الوعي بالظاهرة يطرح سؤال البحث في الهوية: هوية المعنى، هوية الخطاب، هوية المرض، هوية الذات التي تنتج الخطاب، هوية الذات الحاملة للمرض، هوية الذات التي تساهم في اضطراب المنحنيات.

 

كل هذا يشير ببساطة إلى أننا ونحن نقرأ منحنيات الوضعية الوبائية هنا والآن، أن الأمر فيه نوع من الاضطراب شكلا ومضمونا، حيث البحث عن المعنى من الخطاب يوحي بصعوبة الالتزام بما طرحه مارشيا على مستوى الهوية، وما رسمه ياكوبسون على مستوى النموذج، وهذا ما يتبين من خلال المرئي والمسموع والمكتوب، حيث إن الممارسات اليومية على مستوى السلوك لدى عينة كبيرة من الأفراد في الكثير من المجتمعات توحي وكأن الفيروس لا يفتك بالجسد بصورة رهيبة، وأن تلك المعلومات خاطئة على مستوى انتقال العدوى والوفيات الناجمة عن المرض، وهذا ما يلاحظ في العديد من الوضعيات الاجتماعية. وهو ما يطرح سؤال اختلال إدراك خطورة الأزمة الراهنة المرتبطة بالفيروس، مما يعمق من تلك الخطابات التي ظلت لفترة معينة تروج لعدم وجود أدلة على انتقال العدوى بفيروس كورونا بين أفراد المجتمعات، مما ساهم في إحداث نوع من التراخي في أكثر من نقطة في العالم، وعدم الخشية من هذا الفيروس الذي تحول باعتراف منظمة الصحة العالمية إلى وباء عالمي.

 

لكن مع تنامي الغزو الكوروني، تحول كل شيء إلى مساءلة هذا الجحيم، من ووهان إلى ساوباولو، مما يطرح سيناريوهات عديدة ما بعد كورونا على الإنسان والمنظمات. ذلك أن طرح الهوية هنا -بمعنى من المعاني- يحيل إلى فترة المراهقة، حيث الإحساس بالرغبة في استقلالية الذات ورفض رقابة الآخر، وهو ما  يطرح سؤال سوء الالتزام وخرق الحجر وحالة الطوارئ الصحية، وسؤال عدم الوعي بالأزمة والمرض، وكأن رفع الحجر تم التأشير عليه.

 

في الحجر الصحي وحالة الطوارئ -والتمديد الواقع بينهما- تعمق سؤال سوء الالتزام، الشيء الذي يجعلنا لا نزال نبحث عن جسر من أجل الوصول إلى تلك النقطة التي ترمز للصفر الذي يوحي بالدلالة في علم الرياضيات وعلم الإحصائيات.

 

ومنه فإن الإنصات إلى الخطاب في هوية المنحنيات، يجعلنا نكتشف تلك السيرورة التي تنبني من خلالها هوية الفرد، حيث الانقسام بين تلك الهوية المشتتة والمغلقة، وهو ما يدفع إلى البحث عن تلك الآليات التي تساعد على تكوين فهم هوية الوباء.. حتى لا تتناسل البؤر التي تعمل على ارتفاع الضغط لدى العاملين في مختبرات ومصحات ومستشفيات الوطن. وتربك حسابات وتوقعات المختصين في علم الأوبئة.

 

إن الالتزام بالحجر الصحي وحالة الطوارئ والتمديد إذا لم يسكن إلى الاختبار، اختبار الوضعية المناسبة، فإن الأمر سيكون صعب القراءة خلال الإعلان عن رفع الحجر وحالة الطوارئ.

 

أما إذا تحققت هوية الاختبار وتم الالتزام، فإن المنحنيات التي تكسر التوقعات ستختفي من الترتيب، لترسم بسمة على قلوب العالقين في وضعيات تحتاج إلى السؤال، سؤال الذات التي تعيش الاغتراب بالمفهوم الكوروني، حيث شاشة الحاسوب تبحث بين الحروف، عن الشوارع، عن الأزقة والأمكنة، تلك التي جمعت الذات بالآخرين في جغرافيات البياض في ظل المعنى من الوجود.

 

دون ذلك، وانطلاقا من المعطيات التي تعيش حالة اللاتوازن الذي تولده بؤر المهني والعائلي، يبقى سؤال الهوية حسب مارشيا قائما، وهذا يحتاج لآليات صارمة حتى يكون الوضع مناسبا، حين يرفع الحجر الصحي وحالة الطوارئ.

 

بين هذا وذلك، تحضر تفاصيل المأساة، مأساة الذي أعلن الولادة والحرب من ووهان إلى أرجاء تبحث عن رجاء، يعفي المجتمع الكوني من جحيم كورونا الذي سكن الأرض ليل نهار.

 

ومنه فإن عدم الوعي بالانتهاكات والاختراقات في كل الأمكنة، يجعل الذات والآخر أمام الاختناق البطيء والمستعصي على التحمل، في مستشفيات ومصحات تحولت إلى عمومية، وحده جحيم كورونا أجبر  ضحاياه على البقاء فوق سرير في غرف تتنفس بالأنابيب، حيث التفاصيل الصغيرة -في حياتهم- تربطهم بالفرح في بيئات كان يؤثثها حديث الذات والآخر  بعيدا عن  هاجس الموت المحتمل. رغبة في العودة إلى تلك الحياة التي...

 

كورونا حالة خوف مشتركة من ووهان بالأمس انطلقت، اخترقت وتخترق كل الحدود، هنا والآن جنوبا في بلاد السامبا ساوباولو حيث الرعب، وكأنه استنفار عالمي، يختلف عن ذلك الذي يكون في  الحروب والأعاصير والمجاعات والانقلابات، حيث يتوزع الخوف والارتباك، وفي ضوء العتمة بعض من الأمل حتى لا تتواصل خيبات وهزائم الجسد.

 

في زمن كورونا حب الآخرين لا ينفصل عن الذاكرة والجسد رغم الأرقام التي تتحطم كل يوم، وكأننا أمام حضور هذا الموت الذي يشبه حالة ضعف أمام زائر يحمل تفاصيل الطلقة الأخيرة.

 

إن القلق المشترك حول الذات والآخر والمرتبط بالمنحنيات والمراهقة والهوية والمرض والنقاهة، يحيل إلى سؤال معنى حياة الآخرين بالنسبة للذات في زمن كورونا، وإلى سيميائية مقاومة الفيروس النفسي، حيث الهوس على مستوى التعقيم بالقوة والفعل في كل الأمكنة.

 

- أحمد الرياضي، أستاذ علم النفس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، الدار البيضاء، أخصائي نفساني