عبد الإله التهاني يحاور في "مداراته" ذاكرة "العريس" صلاح الوديع

عبد الإله التهاني يحاور في "مداراته" ذاكرة "العريس" صلاح الوديع الشاعر صلاح الوديع (يسارا) والزميل عبد الإله التهاني

تابعت جريدة "أنفاس بريس"، الحلقة الجديدة من برنامج "مدارات"، الذي يعده ويقدمه الزميل عبد الإله التهاني، وذلك يوم السبت 23 ماي 2020، والتي استضاف فيها الشاعر والكاتب صلاح الوديع.

اللقاء الإذاعي المتميز ركز على تجربة صلاح في الكتابة الأدبية والفكرية، والعمل التنويري في واجهات المجتمع المدني، والأسئلة الكبرى للنقاش الفكري في مغرب اليوم.

وقفة "مدارات" استحضر فيها الشاعر والكاتب صلاح الوديع، في هذا الحوار الإذاعي، مشاهد من سيرة والده الشاعر محمد الوديع الأسفي، ووالدته الشاعرة ثريا السقاط، كاشفا عن  مستويات تأثره بهما.

 

"الكاتب والشاعر تصنعه الحياة"، بهذه الجملة المترعة بالإشارات والرسائل افتتح الكاتب والشاعر صلاح الوديع شهية الحديث عبر أثير برنامج "مدارات" الزميل عبد الإله التهاني، حيث اعترف أمام المستمعين بما اقترفه منذ نعومة أظافره من فعل القراءة والنهل من ينبوع الكتب "التي ساهمت في تشكيل وصقل شخصيته"، إما بإيعاز من الوالد المناضل محمد الوديع الأسفي أو الأم المثقفة ثريا السقاط.

 

فترة طفولة الشاعر الوديع تميزت بتتلمذه على يد الجيل الأول من المعلمين والمدرسين المغاربة بعد الاستقلال "لحظة نهوض وطني كبير، كان فيها الطاقم التربوي ملحاحا على المثابرة والجدية بحماس وافر". يقول صلاح مؤكدا على أنه "أحب القراءة من خلال المدرسة والأسرة، وبفضل الوالد محمد الوديع الأسفي والأم ثريا السقاط".

 

في هذا السياق يكشف ضيف الزميل عبد الإله التهاني على أن الكتب كانت زادا عاديا مثل كل الأشياء المتداولة في البيت "كنت وإخوتي نتنافس على من سيقرأ الكتاب بعد انتهاء الوالد من قراءته".

 

ذاكرة الكاتب والشاعر صلاح مرصعة بأسماء الكتب والدواوين التي ساهمت في تكوين شخصيته، والتي كانت تؤثث مكتبة الوديع الأسفي من بينها نسخة "ديوان المتنبي" التي مازال يحتفظ بها، فضلا عن مجموعة من الروايات والقصص العربية والمترجمة.

 

"كانت الظروف تختلف عما نعيشه في زمن منصات التواصل الاجتماعي، ظروف أخرى أعطت للكتاب قيمة كبيرة"، يوضح صلاح في حديثه عن الكتب التي أثرت في شخصيته.. من هنا تنطلق حكاية الوديع مع كتب ومراجع الوالد التي كانت "تعكس انفتاحه على الأدب والفكر والسياسة.."

 

"كان بديهيا أن أقرأ "البؤساء"، التي أثرت في حياتي، لأنه كتاب يجعل الإنسان يقدر معنى المعاناة والعوز"، يقول الشاعر صلاح الوديع؛ معتبرا أن "الدفق الإنساني جاء من مختلف القراءات" التي توجها برواية "الطاعون" التي حددت مسار حياته وهو ابن السابعة عشرة ربيعا.

 

هذه التراكمات المعرفية جعلت من الوديع شخصية تؤمن بضرورة مواجهة الشر ومحاربته كيفما كان نوعه وشكله، سواء كان هذا الشر "وباء أو حقدا أو تعال أو استعمارا... يجب النضال ضده".

 

فلسفة صلاح الوديع في الحياة تتمثل أساسا في "عدم قبول الحياة كما هي، يرفض مفهوم القدر المتحكم فيه"؛ لأنه حسب قوله "موكول للإنسان مواجهة القضايا والمصاعب في الحياة". ويوضح في هذا المستوى بأن "الكتب التي التهمها ذات الطابع السياسي والفكري والأدبي والإيديولوجي... سمحت له بأن يكون شخصية منفتحة على آفاق أخرى من مختلف الأجناس الأدبية والفنية من مسرح وفنون وموسيقى وشعر.."

 

واعترف صلاح بأنه "يحمل الكثير من شخصية الوالد محمد الأسفي وأنفاس الشاعر الوطني، رجل المبدأ والموقف النضالي.. المكافح الذي خبر الاعتقال والسجون مرات عديدة خلال فترة الاستعمار وبعد الاستقلال لأنه كان رجل وطنيا متفاعلا مع زمانه".

 

الجميل في بوح صلاح عن والده هو ذلك الاعتراف الممزوج بالاحترام والتقدير، حيث يقول "لم يكن بالإمكان أن أترعرع أمامه دون أن أنتقده.. اختلفنا سياسيا.. وهذا لم يفسد أبدا العلاقة الوجدانية العميقة بيني وبينه"؛، ويصفه بالرجل الذي "امتاز في حياته بالتضحية ونكران الذات والإرادة التي يحركها الضمير والترفع والوفاء للصداقات الكبرى".

 

يحكي عنه بألق أنه قبل وفاته بشهور "كان بيننا انسجام تام، انسجام خاص وصامت"؛ لكن محمد الوديع الأسفي قال لأصدقائه ذات يوم "لم أفعل شيئا في حياتي على المستوى المادي، لكنني أفتخر بأبنائي".

 

يستحضر صلاح العديد من بعض المهام الوطنية التي تحمل مسئوليتها محمد الوديع الأسفي مع ثلة من الوطنيين "كان الوالد عضوا في اللجنة التي شكلها المهدي بن بركة لاستقبال الملك محمد الخامس نهاية سنة 1955"، ويصف شعور الآسفي في تلك اللحظة بـ "نشوة عكست روح الرجل، وغبطة وجودية، وهو يشاهد المغرب الذي عاشه مستعمرا ومضطهدا شعبه، يعود ملكه من المنفى وتلوح بشائر الاستقلال".

 

وكان حديث ضيف "مدارات" عن والدته المناضلة الشاعرة ثريا السقاط ممزوجا بطعم الحب والتقدير والاحترام لامرأة مكافحة شغلتها قضايا الوطن، "لم يكن والدي ليفعل ما فعل في حياته لولا أمي". وحينما كان والدي يتعرض للاعتقال "كانت أمي تتسلم المسئولية وتأخذ المبادرة لتدبير الحياة في البيت.. كان الأمر سهلا للغاية عند ثريا".

 

صلاح الوديع في حديثه عن الشاعرة ثريا السقاط قال: "إنها قارئة ممتازة، تعشق المطالعة، لا يفارقها الكتاب من بين يديها وهي مازالت دون الثلاثين من عمرها.. تلبس أجمل ملابسها، وتضع شالا على كتفها، وتجلس تحت شجرة، وتعكف على القراءة.. وأنا أقف مستغربا لهذا المشهد".

 

وبعشق كبير يمضي في الحكي عن والديه فيقول: "كنت أتلصص عليهما، حيث كان الوالد يقرأ عليها بعض أشعار نزار قباني، وهي تستزيد"، ولم يتردد الشاعر والكاتب صلاح الوديع في الاعتراف بقوله "أنا مدين للوالدة، هي التي شجعتني على الكتابة والنشر.."

 

عن لحظة وفاة المرحوم الملك محمد الخامس، لما كانت أسرة محمد وديع الأسفي تقطن بمدينة سيدي بنور، استحضر صلاح مشاهد تحتفظ بها ذاكرته وهو آنذاك لم يتجاوز سن التاسع من عمره "كانت لحظة زلزال وجداني عند المغاربة، لأن محمد الخامس كان موحد الأمة ورمز للتحرر الوطني من الاستعمار... أمواج بشرية نزلت أمام الإدارة.. كان مشهدا لا ينسى.. هيستريا من البكاء..." هذه اللحظة الفارقة كانت باعث مهم للانتباه إلى شخصية الملك، وأثرت في شخصية صلاح الوديع وهو يطرح سؤال ماذا وقع؟ ورغم صغر سنه كتب قصيدة شعرية مازال يحفظ منها بيتين:

 

"تركنا محمد أبو المساكين

وترك الشعب في قبضة السكين"...

 

من هنا انطلق صلاح وكانت بداية تشكل شخصية الشاعر.. يقول في هذا الشأن "أنا مدين لأمي، التي جعلتني أتجرأ على الكتابة وأن استمر فيها"، حيث كانت تجربة الكتابة من داخل السجن وإطلاع ثريا السقاط على كل ما يكتب صلاح الوديع، وشجعته على ذلك وكانت تحمل أشعاره للنشر على صفحات الجرائد والمجلات. نفس الشيء مارسه صلاح مع الأب السي محمد الوديع الأسفي وهو في السجن "طلبت من الوالد أن ينشر قصائده من أجلي فكان ديوان (الجرح العنيد) الذي أهداه إلي".

 

من جهة أخرى، وفي سياق أنه من أبرز مثقفي اليسار المغربي، على اعتبار أنه يتوفر على تميز فكري وشجاعة في التحليل، قال صلاح الوديع أنا "مخلص للفكرة وليس بالضرورة للحالة أو السياق، لأن السياقات متغيرة" وفق تعبيره، "ما يبقى بعدنا هو الومضة التي نعبر عنها ثقافيا أو سياسيا.. إنني أجتهد ما استطعت لأبقى وفيا ومخلصا للفكرة الأولى، وأعبر عن التسامح اتجاه الآخرين".. مضيفا: "قم بما تراه واجبا عليك".

 

وتحدث صلاح بثقة عن المغرب قائلا: "المغرب يعيش دينامية على مستوى النقاش العمومي"، حيث ركز على أهم القضايا والمحاور الكبرى التي يجب الانكباب عليها في الساحة السياسية في ظل تداعيات الأزمة الحضارية الكونية وأطلق مجموعة من الإشارات الدالة التي يمكن تطويرها كأرضية للنقاش العمومي؛ أهمها حسب صلاح الوديع تلك التي تتناول المستوى "الوجودي الفردي وتمر على مستوى العلاقات وتنظيم الحياة الاجتماعية والعامة، في علاقة مع التحديات".. معتبرا أن "الصراع القوي اليوم يتمثل في الهيمنة على العالم، بفعل التحولات المحتملة، وإعادة النظر في البديهيات والعلاقات الدولية وتغيير موازن القوى"؛ مؤكدا على أن هناك "أشياء عميقة سوف تحدث في حياتنا"... لأن جائحة كورونا "واهم من يعتقد أنها ليست سوى مجرد وباء عابر سوف يمر"..

 

وشدد ضيف حلقة "مدارات" على أنه يجب اليوم "تعزيز الحكامة الديمقراطية وربط المسئولية بالمحاسبة". ولم يتردد في المطالبة بـ "تغير النخب الحزبية والسياسية"، وترافع بوضوح على ضرورة فصل الدين عن السياسة بالقول "يجب الكف عن إدخال الدين في السياسة لأنه ليس مجالا للصراع أو للمنافسة أو للاستحواذ".

 

هذا وختم صلاح الوديع لقاءه الإذاعي مع الزميل عبد الإله التهاني قائلا: "على الأجيال أن تفهم أن مصيرها يتحقق بالمشاركة في الشأن والحياة السياسية".