تستطيع أن تحدثها، أن تضع يديك فـي يديها وتصافحك بحرارة وتلقائية، كأنها تعرفك من زمن بعيد، لا تحس بأنها غريبة عنك. إنها تفتح لك قلبك وتستضيفك وهي تقول لك: «تفضّل بالدخول» حتى وهي لا تعرفك معرفة جيدة ولا تعرف اسمك. مجبولة على البساطة والتواضع والمرح، هي حنان إبراهيمي (بطلة فيلم حسن بنجلون «الغرفة السوداء»)، تسير بصمت إلى الأمام خطوة خطوة دون أن تثير وقع خطواتها ضجة أو جلبة.
لم تدفن حنان إبراهيمي "الماضي" وهي تقدم على خطوة مصيرية في مستقبل حياتها، وتختار وطنا جديدا تبني فيه عشّها. هاجرت إلى أمريكا ولكن قلبها تركته بالمغرب "وديعة" لدى والدها "الحنون" ووالدتها "الطيبة" وشقيقيها.. أتذكّر بينهما "صفاء" بشعرها القصير وقسمات وجهها الطفولي، صفاء كبرت اليوم، ربما تزوّجت وتغيّرت ملامحها. القلب المشطور إلى نصفين لم يتبّق منه إلى نصف واحد بعد أن أخذ الوالد "الحنون" شطره ورحل إلى دار البقاء.. رحل بابتسامة طافية على شفتيه، هي في الحقيقة ابتسامة رضى وقناعة وسلام. وأنا أتذكّر حنان إبراهيمي التي عبرت المحيط ولم تحرق سفنها، أستعيد ملامح حياتها، وذكرياتنا المشتركة، تعبرني أحلامها السينمائية "المجهضة"، ودورها البارز في فيلم "الغرفة السوداء" لحسن بنجلون. أُخرِجُ الورقة التي دوّنت فيها ما كتبته عن حنان إبراهيمي خلال لقاء في مساء ما… كانت كلما انتهت من فكرة ما تصعد موجة قريبا من المقهى التي تطل على البحر، لأقرأ عليكم ما كتبتُ في الورقة بصوت مسموع:
بفندق حياة ريجنسي، كنتَ تنظر إليها من بعيد عبر شاشة كبيرة في دور تلفزيوني بأحد أفلام القناة الثانية للمخرج حكيم النوري، وهي تتقمص دور «نورا»، تحس بأن حنان إبراهيمي اكتشاف جديد، وتحسّ أكثر بأن هذه الممثلة قادمة إلى الأضواء.
تلك التجربة التلفزيونية لم تكن هي الخرجة الفنية الحقيقية لحنان إبراهيمي، ولكن كانت بداية موفقة وخطوة مشجعة مهدت لها الطريق إلى عالم السينما. منذ تلك الأمسية بفندق ريجنسي وشمت حنان إبراهيمي اسمها من خلال حضورها الجيد في «نورا»، ومن شدة تقمصها لهذا الدور يختلط عليك الأمر أحيانا وتناديها «نورا» وتنسى أن اسمها الحقيقي هو «حنان».
تسمع دقات قلبها بعد كل دور سواء في المسرح أو التلفزيون أو السينما، وكنتَ تقول لها لتهدئ من روعها:
ـ إن قلق البدايات صعب «دائما» وستتغلبين عليه بمرور الوقت.
ومن يشاهد حنان إبراهيمي في فيلم حسن بنجلون الجديد «الغرفة السوداء» لا يصدق أن عمر هذه الممثلة قصير جدا. من «نورا» إلى «الغرفة السوداء» تحسّ بأن هذه الممثلة تنضج تدريجيا وتختمر تجربتها.
بدافع فضول مهنتك تسأل حنان إبراهيمي في مقهى مفتوح على البحر:
ـ أين فتحت عينيك؟
وأنت تقصد أن تنبش في ذاكرتها وتتطلع لمعرفة جذور هذه النبتة، وكم كنت تتوقع أن ترد عليك بهذا الجواب المفحم:
ـ أنا ولدت في بيت متواضع داخل أسرة مكونة من أربعة أطفال (ولدان وبنتان) أنا أكبرهم، بأحد الأحياء الشعبية البيضاوية.
لم تقاطعها، هواء البحر كان يحمل معه نفحات برد قارس يجعل التركيز صعبا.
تحدثت هذه المرة عن والدها الموظف في البحرية الملكية بأكادير، والذي كانت لا تراه إلا مرة واحدة في الشهر إلى أن عاد ليعيش معهم في المنزل بصفة دائمة حين بلغت من العمر 17 ربيعا.
في طفولتها، كانت حنان ابراهيمي بنتا مهذبة، جميلة، وهادئة لا تكاد تغادر عتبة المنزل، تقضي وقت فراغها في الإنصات للموسيقى والمطالعة، تقرأ الكتب بنهم شديد، تحب البحر، تحب اللعب، تحب الحياة.
ـ ماذا تحبين في الحياة؟
لا تجيبك بوضوح:
ـ نحن عابرون في الحياة، لذا علينا أن نحيا كل دقيقة من عمرنا.
تتوقد الحياة وتشتعل بالحيوية.. منطلقة.. متحررة.. عصرية... بسيطة.. حالمة.. عاطفية... هشة أحيانا وقد تكسرها هبّة هواء خفيفة. هكذا هي حنان إبراهيمي مخلوقة ضد القساوة والصلابة، ضد الغدر، ضد الغرور، ضد الخيانة... ليونتها تجعلها سريعة العطب والحساسية المفرطة ضد كل طعنة غادرة، لذا لا تستغرب إن أجهشت أمامك بالبكاء في حالاتها الانفعالية القصوى، سواء في حالات الفرح أو الحزن... هكذا هي دموعها تطلّ دائما من جفنيها وعلى أهبة الهطول.
تنبش من جديد في ذاكرتها، وتفتح موضوعا جديدا، زرقة البحر وزرقة السماء تجعل هذا الفضاء حالما ورومانسيا، وتجعل الذاكرة أكثر خصوبة وتوقا للحكي.
حنان إبراهيمي مرت بهذه المدارس طيلة مسارها التعليمي:
روض الأطفال أبو الطيب المتنبي، مدرسة الرشيد، إعدادية الأميرة للامليكة، ثانوية جعفر الفاسي، كلية الحقوق، معهد التكنولوجيا التطبيقية.
استغرقتَ في استجوابها رغم صقيع البرد ورياح البحر الشديدة، وهذه المرة اخترتَ أن تسألها عن بدايات الحبو في الفنّ. وفضلتَ أن تفاتحها في الموضوع بهذا السؤال:
ـ كيف أصبحت ممثلة؟
سؤال بدا لها ثقيل الوزن وتحتاج إلى يوم كامل للإجابة عنه (...) اعترفت بأنها كانت مدمنة على مشاهدة المسرح وسماع الموسيقى، ولم تكن تضع في الحسبان أن تصبح ممثلة في يوم من الأيام، لم تكن تخطط لكل هذه الأشياء الجميلة التي تحدث لها الآن: المسرح، التلفزيون، السينما... حدثت هذه الأشياء بالصدفة، الأضواء كانت تغريها، تطارد عناوين المسرحيات في دور الشباب والحفلات الموسيقية، لكنها لم تنظر يوما إلى المرآة وهي تقول: «أنا ممثلة...»... إلا أن كوثر صديقتها في الكلية قالت لها: «أنت ممثلة»، وهي التي اقترحت عليها الانضمام إلى المحترف المسرحي لكلية الحقوق بالدارالبيضاء. كوثر هي التي وجّهت حنان إلى عالم التمثيل، دائما يرى الآخرون فينا ما لا نراه في أنفسنا، ولو لم تصنع كوثر قدر حنان، لكانت في مكان آخر بعيدا عن الأضواء التي تثيرها، في مكان بارد تستمع إلى الموسيقى وتصارع المناكب لمشاهدة عنوان مسرحية كان من الممكن أن تكون هي بطلتها.
انضمت إلى محترف «ستانسلافسكي» الذي كان يديره محمد الصوفي وهي متهيبة من أولى مغامراتها في المسرح سنة ،1999 ولعبت في مسرحية «النبي المقنع» من تأليف عبد الكبير الخطيبي، الدور كان بسيطا، لكنه كان مهما بالنسبة لممثلة مبتدئة مطبوعة على الخجل. بعد هذه المسرحية الأولى تنقلت حنان إبراهيمي بين محترفات المسرح الجامعي، سعادتها كانت لا توصف، أخيرا وجدت ذاتها في المسرح.
مسرحية «بين البارح واليوم» نقلة نوعية أخرى في مسيرة حنان إبراهيمي الفنية، هذه المرة وجدت نفسها أمام مدير فرقة مسرحية احترافية هو عبد العظيم الشناوي، وأمام مجموعة من الممثلين المحترفين. هذا العمل المسرحي لم تخطط له أيضا، وإنما حدث هذا الأمر بمحض الصدفة وبإيعاز من حكيم النوري الذي رشحها لهذا الدور في مسرحية عبد العظيم الشناوي بعد أن كانت قاب قوسين من لعب الدور الأول في فيلمه «قصة حب». أدت أدوارا أخرى في فرقة الطيب الصديقي وفرقة عبد الإله عاجل، ومع هذه الفرقة الأخيرة حصلت حنان إبراهيمي على جائزة الأمل بمكناس في الدورة الأخيرة للمهرجان الوطني للمسرح عن دورها في مسرحية «تيسليت».
واليوم، اختارها حسن بنجلون لأداء دور نجاة في فيلمه الجديد «الغرفة السوداء»، هذا الحدث السينمائي كبير في حياتها ولن تنسى الجمهور العريض الذي حضر لمشاهدة العرض الأولي للفيلم، كانت هذه اللحظة شبيهة نوعا ما بعرض فيلمها التلفزيوني «نورا» مع فارق كبير، هو أن السينما تفتح الأبواب المغلقة التي لا يفتحها التلفزيون.
في هذا الفيلم أحسستَ بأن حنان إبراهيمي قامة فنية رائعة بإمكانها أن تذرع طريق الفن بكعب عال وبموهبة لا تعترف بالحدود.
حنان اليوم خارج الحدود، لكنها تركت سفن العودة راسية، تنتظر لهبا من المغرب، فحتى"شعلة" السينما التي لم تنطفئ في داخلها منذ أن استقلت أول طائرة إلى بلاد "الهنود الحمر".. تركت أرقام هواتفها، ودوّنت في دفاتر المخرجين بريدها الإلكتروني، ولم تغلق حساباتها في "الفايسبوك" و"الأنستغرام" و"التليغرام"..
فلا تجهضوا أحلام حنان إبراهيمي، ولا توصدوا أبواب السينما والتلفزيون في وجهها، يكفي أنّها فقدت نصف قلبها.. كفى من أحاسيس الفقدان.. ولا تطفئوا "شعلة" نجمة وتسقطوها من السّماء.