إدريس لكريني: الشّباب العربيّ والحراك الرّقميّ

إدريس لكريني: الشّباب العربيّ والحراك الرّقميّ إدريس لكريني

لا أحد كان يتصوّر قبل عقدَين من الزَّمن أنّ تطوُّر شبكة الإنترنت وما أتاحته من إمكانات جديدة على مستوى التواصُل وتبادُل المعلومات سيُحدِث ثورة حقيقيّة من حيث التأثير في الرأي العامّ والسياسات العموميّة. فقد طَرَحَ النَّشر الإلكترونيّ فُرصاً كبيرة في هذا الخصوص، وجَلَبَ اهتمامَ الكثيرين منذ بدايات انتشاره وتمدُّده في مناطق مُختلفة من العالَم، في أوساط الشباب الذين جذبتهم الإمكانات المُذهلة والجديدة التي يحتضنها هذا النَّشر على مستويات عدّة، وبخاصّة في ما يتّصل منها بشبكات التواصل الاجتماعيّ..

 

تؤكِّد الكثير من الدراسات العِلميّة والأبحاث الميدانيّة على الإقبال الكبير للشباب في عددٍ من دول العالَم على شبكات التواصل الاجتماعي بكلّ أصنافها. فقد ظهرت المدوّنات الإلكترونيّة في منتصف التسعينيّات من القرن المنصرم في الولايات المتّحدة، كهواية ووسيلة للتواصل، حيث وظّفت على مستوى تدوين السِّير الذاتيّة والمذكّرات اليوميّة والتجارب والخواطر والآراء، ونشْر معلومات وأحداث وأخبار وصور مُختلفة، وترويجها عبر شبكة الإنترنت من خلال قوالب جاهزة تتيحها الشبكة في هذا الشأن، قبل أن تفرض الكثير من التقنيّات والشبكات الأخرى نفسها بقوّة داخل أوساط الشباب، كما هو الأمر بالنسبة إلى "الفيس بوك" و"التويتر" و"الإنستغرام" و"اليوتوب".. وبخاصّة أنّ إنشاء حسابات في هذا الصدد هو عمليّة سهلة ولا تتطلَّب وقتاً أو جهداً كبيراً. كما أنّ الأمر لا يحتاج إلى مستوى من التعليم الجامعي أو دبلوم معيّن أو إلى تصاريح إداريّة أو رساميل أو موظّفين أو موزِّعين. ويأتي "الفيس بوك" على رأس قائمة هذه الشبكات، متبوّئاً مَكانته على "التويتر" ثمّ "اليوتوب".. كما تفيد بذلك الكثير من الأبحاث والتقارير الواردة في هذا الخصوص.

 

وفَّر الإعلام الاجتماعي فضاءً حيويّاً للنقاش ولتناوُل الموضوعات بجرأة كبيرة، وزادت بذلك الرغبة نحو توظيف التكونولوجيا الحديثة في مُواكَبة الكثير من القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، وأصبح الإعلام الاجتماعي بشكلٍ عامّ، يمثِّل متنفّساً حقيقيّاً لتجاوُز الإكراهات والقيود السياسيّة والقانونيّة التي تحدّ من حريّة الصحافة والتعبير في مناطق مُختلفة من العالَم، حيث وفّرت شبكات التواصل الاجتماعي إطاراً افتراضيّاً لمُناقَشة عددٍ من القضايا المجتمعيّة الحيويّة والتداوُل فيها. وسعى الكثير من الأشخاص إلى استثمار هامش الحريّة الذي تتيحه شبكة "الإنترنت" في هذا الصدد.

 

تُبرِز النقاشات المُتداوَلة في هذه الشبكات منذ بدايات ظهورها بشكلٍ جليّ قبل سنوات، أنّ الشباب العربي استثمرها بشكلٍ واسع في طرْح أفكاره ومُعاناته وآماله وتطلّعاته في المجالات المُختلفة، وبخاصّة أنّها فتحت أمامه إمكانيّات كبيرة على مستوى التواصل والتعبير عن الذّات وعن الآراء والمَواقف إزاء قضايا عديدة.

 

شكَّلت لحظة الحراك الذي تفجَّر في عددٍ من دول المنطقة فرصةً أمام الشباب لاستثمار هذه التقنيّة بصورة غير مسبوقة، على مستوى التعبئة وحشد الرأي العامّ وتوجيهه، بصورة تجاوزت مهامّ الإعلام التقليدي ومُقارباته في هذا الخصوص. فقد تمّ توظيف الحواسيب والهواتف النقّالة المزوَّدة بكاميرات تصوير والمتّصلة بشبكة الإنترنت على نطاقٍ واسع في كسْر التّعتيم الإعلامي الذي رافقَ عدداً من المحطّات الاحتجاجيّة في عددٍ من دول الحراك، كما هو الأمر بالنسبة إلى تونس وليبيا واليمن وسوريا ومصر والمغرب. ما أسهمَ في الوصول إلى الرأي العامّ المحلّي والدولي، وإبراز الكثير من المَطالب المشروعة التي رفعها الشباب.

 

وعلى الرّغم من الإشكالات الأمنيّة والسياسيّة التي رافقت مسارات الحراك في المنطقة، ما زال الكثير من الشباب العربي يقود حملات ومُرافعات بشأن قضايا اجتماعيّة وسياسيّة مُختلفة عبر هذه الشبكات، سواء تعلَّق الأمر منها بمُواكَبة السياسات العموميّة في القطاعات الاجتماعيّة والاقتصاديّة أم بتوجيه النقد للفاعلين السياسيّين، وكشْف خروقات تتعلّق بانتهاكات حقوق الإنسان، أم بملفّات الفساد الإداري والمالي والسياسي وفضحها.

 

لم يقتصر استخدام شبكات التواصُل الاجتماعي على الأشخاص، بل إنّ الكثير من المؤسّسات في القطاعَين العمومي والخاصّ، لجأت إلى إنشاء حسابات على سبيل التواصل مع الجمهور، فيما أقبلت عليه أيضاً فعاليّات سياسيّة وحزبيّة بغرض تطوير أسلوب التواصل السياسي وكسْب تعاطُف الجماهير، كما وظّفت أيضاً من طرف بعض النّخب التربويّة في أغراضٍ تعليميّة.

 

إنّ المُتتبّع لفضاء التدوين عبر هذه الشبكات يجد أنّها أضحت مجالاً للنقاش والتواصُل والحوار المُستمرّ، كما أصبحت تتّسم بالجرأة في التعاطي مع مُختلف القضايا والموضوعات، إلى الحدّ الذي جَعَلَ البعض يعتبره بمثابة طفرة تحرّريّة نوعيّة بعد التحوّل الذي أحدثته القنوات الفضائيّة في المُجتمعات العربيّة في السنوات الأخيرة.

 

تؤكّد الكثير من الدراسات الميدانيّة أنّ الطابع الذي يميّز التدوين في شبكات التواصل لدى الشباب العربي بشكلٍ عامّ، هو الميل إلى نقد الأوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة المحليّة، فضلاً عن تناوُل القضايا العربيّة والإسلاميّة المُختلفة، مُقارنةً بنظرائهم في عددٍ من الأقطار الغربيّة؛ حيث يغلب الطابع الفنّي والترفيهي والتواصلي على محتويات هذه الشبكات ومضامينها.. وقد فتحت هذه الشبكات إمكانات مُذهلة أمام الشباب في المنطقة العربيّة للانفتاح على ثقافات وعلوم حديثة، زادت من وعيها السياسي ومن حسّها النقدي للأوضاع في المنطقة.

 

إنّ الإقبال الكبير للشباب العربي على شبكات التواصُل الاجتماعي وطرْحه لنقاشات سياسيّة ومجتمعيّة مهمّة عبرها وبحسٍّ نقديّ واضح، يقابله عزوفٌ كبير في ما يتعلّق بالانتماء للأحزاب السياسيّة أو المُشارَكة في عددٍ من المحطّات الانتخابيّة؛ وهو ما يطرح أكثر من دلالة بصدد هذه المُفارَقة التي تُسائل الأحزاب السياسيّة والإعلام التقليدي باتّجاه تطوير الأداء، والانفتاح على المتغيّرات والتطوّرات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وعلى مشكلات الشباب أنفسهم وتطلّعاتهم.

 

يشكّل لجوء الكثير من الشباب إلى شبكات التواصل الاجتماعي كسبيل للترافع بشأن عدد من القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة، مؤشّراً على تراجُع أدوار الأحزاب السياسيّة والنقابات على مستوى التعبئة والتنشئة والتمثيل والترافع.. وبعدها عن نبض المجتمع نتيجة مجموعة من العوامل الذاتيّة والموضوعيّة..

 

يَعتبر الكثير من الشباب العربي أنّ شبكات التواصل الاجتماعي أصبحت تشكِّل بالنسبة إليهم متنفّساً للتعبير عن الذّات وعن التطلّعات وإبراز المَواقف إزاء السياسات العموميّة، وهو ما يفسِّر إقبالهم المكثّف على هذه التقنيّات، حيث نجح الكثير منهم في إيصال أصواتهم إلى صنّاع القرار، والمُرافَعة بشأن عدد من القضايا. ففي المغرب انطلقت قبل أشهر عدّة حملة إلكترونيّة لمُقاطَعة بعض المنتوجات، كبّدت شركاتها خسائر كبيرة اضطرّت معها بعض هذه الشركات المعنيَّة إلى مُراجَعة أسعارها. وفي أقطار عربيّة أخرى استطاع الشباب رفْع مَطالب متّصلة بالحقوق والحريّات، فيما نجح بعضهم في إطلاق عرائض إلكترونيّة بصدد عدد من القضايا السياسيّة والحقوقيّة والاجتماعيّة حظيت بإقبالٍ كبير.

 

على الرّغم من الديناميّة التي أحدثها استثمار الشّباب لهذه الشبكات داخل المشهدَين السياسي والإعلامي العربيَّين، إلّا أنّ الأمر لم يخلُ من إشكالات وصعوبات ومَخاطر، سواء تعلّق الأمر منها بالإشكالات النفسيّة في ارتباطها بالإدمان، والمُبالغة في الابتعاد والهروب عن الواقع، أم ما تعلّق منها بالتضييقات التي طاولت بعضاً منهم بسبب مَواقفهم ومنشوراتهم، التي وصل فيها الأمر أحياناً حدّ المُحاكَمة.. أو ما ارتبط منها بارتكاب جرائم وانحرافات متّصلة بالقرصنة، أو مُمارسة السبّ والقذف، ونشْر الأخبار الزائفة أو التحريض على ارتكاب العنف والإرهاب والإساءة إلى حقوق الإنسان عبر هذه الشبكات.

 

سعت الكثير من الدول العربيّة إلى تطوير ترسانتها القانونيّة على طريق دعْم الأمن الرقمي، من خلال تجريم عددٍ من المُمارسات المُنحرِفة، كالإشادة بالعُنف والتحريض والقرْصنة الرقميّة.. إلّا أنّ تنامي الإقبال على هذه الشبكات وغياب وعي قانوني لدى الكثير من المُرتادين أو أصحاب الحسابات، سيطرح حتماً المزيد من الإشكالات التي تفرض عقْلنة هذا الفضاء وتوظيفه على نحوٍ سليم وبنّاء، يُوازن بين حريّة التعبير، وإرساء الأمن الرقمي.

 

وفي الوقت الذي بدأت فيه الكثير من الحكومات بإعمال تشريعات تدعم عقْلنة هذه الشبكات وتنظيمها عبر تجريم الكثير من الأفعال والسلوكات التي تمسّ مقوّمات الأمن الرّقمي، من قبيل القرصنة والإشادة بالعنف والإرهاب والإشاعة، لم تخفِ الكثير من الفعاليّات الشبابيّة تخوّفها من التذرّع بهذه الأهداف للتضييق على هامش حريّة التعبير الذي أتاحته شبكات التواصل والنشر الإلكتروني بشكلٍ عامّ، مؤكِّدة على أهميّة التوعية في هذا الصدد بدل اعتماد الحلول الزجريّة والعقابيّة.

 

- إدريس لكريني، كاتب وأكاديمي
(عن موقع "مؤسسة الفكر العربي)