عبد العزيز عليلي: زراعة البطيخ الأحمر بزاكورة من تجليات رأسمالية الكوارث

عبد العزيز عليلي: زراعة البطيخ الأحمر بزاكورة من تجليات رأسمالية الكوارث عبد العزيز عليلي

سأستعير ها هنا عنوانا لكتاب قرأته في زمن كورونا، موسوم بـ : ''رأسمالية الكوارث" من تأليف الصحافي الاستقصائي ومنتج الأفلام الوثائقية الأسترالي أنتوني لوينشتاين. كتاب أماط اللثام عن الوجه الذميم لنظام رأسمالي يجني أرباحا هائلة من مآسي وويلات البشرية؛ يستنزف مقدراتها وثرواتها بكل أنواعها، من أجل مراكمة الأرباح. رأسمالية، كما جاء في الكتاب ''مفترسة تتجاوز نطاق استغلال الكارثة".

 

"زراعة البطيخ الأحمر بإقليم زاكورة أو الدلاح" لا يبتعد عن هذا السياق. فهي زراعة في ظاهرها تتيح حياة أفضل للساكنة من خلال ما يبدو تنمية وخلق فرص عمل و... لكن في عمقها ذات بعد استغلالي جشع، يمتص الحياة؛ ما فتئ يأتي على كل ما هو أخضر غير مبال بما يحيقه من استنزاف لمقدرات المنطقة وفرشتها المائية. زراعة البطيخ الأحمر يجني من خلالها المستثمرون أرباحا طائلة تسيل اللعاب، لكنها كانت ولا تزال وبالا على قطاع الماء بالإقليم .

 

تهافت العديد من الناس على زراعة البطيخ الأحمر فيما يشبه حمى الذهب، بحثا عن الثروة. زراعة انتشرت بشكل رهيب حتى أصبح كل من هب ودب، يطمح أن يغرف من حلاوة أرباحها، خصوصا بعد أن أصبحت تصدر إلى الخارج، و تضخ العملة الصعبة. غير أن حلاوة الأموال التي تجنى من هاته الزراعة ختمت على أعين مستثمري الكوارث المرارة التي يتجرعها ساكنة الإقليم، من خلال ما يقترفون من إبادة  في حق ما تبقى من الفرشة المائية، ستحرم الأجيال القادمة لا محالة من ماء شروب. تجدر الإشارة أن المساحات المزروعة من البطيخ الأحمر قد زادت أضعافا مضاعفة لتصل هذه السنة حسب مصادر غير رسمية  إلى أكثر من 15 ألف هكتار!

 

في منطقة يعاني سكانها ويلات ظروف طبيعية قاسية موسومة بالجفاف والتصحر وندرة الموارد المائية للشرب، وري ما تبقى من أشجار النخيل، كان الأجدر بمخططي التنمية أن يضعوا نصب أعينهم خطر نضوب طبقة المياه الجوفية بالمنطقة، وأخذ العبرة بما وقع من استنفاذ للمياه الباطنية بأقاليم، كنا بالأمس تجمعنا معها نفس الجهة كأكادير، تزنيت، تارودانت واشتوكة أيت باها. فإذا كان التاريخ للعبرة فإنه من الصعب تقبل أن ما سيقع لا قدر الله من إفناء للفرشة المائية بإقليم زاكورة على أنه خطأ غير محسوب فحسب، بل هو اختيار على حد قول باولو كويلو: ''حينما، فلن يُصبحَ خطأ بعد ذلك: إنه قرارٌ واختيار".

 

وجب أخذ العبرة كذلك من الجارة الشمالية إسبانيا التي منعت زراعة البطيخ الأحمر، حفاظا على فرشتها المائية من الإبادة. وتقوم باقتنائه من المغرب. يجب الاتعاظ كذلك بدول شقيقة كالعراق، سوريا، لبنان.. والتي كانت بالأمس القريب تنعم بثروات مائية هائلة، وبدأت منذ مدة من تقليل مساحات الري السطحي في خططها الزراعية، وتقليص المحاصيل الصيفية، كما منعت زراعة المحاصيل التي تستهلك كميات كبيرة من المياه مثل الأرز والذرة، بسبب تراجع مخزونها المائي. أين نحن من غيرة هؤلاء على ثروات بلدانهم المائية؟

 

علينا أن نتحرك جميعا، قبل أن يداهمنا الخطر ونصبح بعدها بين سندان الجفاف ومطرقة الفاقة. علينا أن نضع حدا لجشع رأسماليي الكوارث ومن يلف لفهم؛ لقد جاءَ هؤلاء ''بذات الرَّعد والصّليل''؛ ينطبق عليهم المثل القائل: ''الرعد الذي لا ماء معه لا ينبت العشب.'' يولي هؤلاء المال أولوية أعظم من حياة الناس. ولندرك بأنه عند تلاشي هذا الفيض من السخاء، سيفرون -كما فروا من قبل- غير آسفين على ما اقترفوه في حق فرشة مائية، جذور أشجار النخيل أحق بها.

 

إن الشعور بالندم مؤلم جدا. سنندم من حيث لا ينفع الندم، بعد أن تصير أراض كانت معروفة بعطاء نخيلها، تصير وكأنها ساحة حرب موحشة. كل الأرقام تشير إلى تراجع منسوب الفرشة الباطنية بالإقليم، بفعل العدد الهائل من الآبار الذي صاحب زراعة البطيخ الأحمر. وكان لها التأثير الأكبر على نضوب الفرشة المائية، أدى وبشكل مباشر إلى تراجع أعداد النخيل.'' إذ بات مستوى المياه بعيدا يصل بين 25 و30 مترا عن النطاق الجذري لأشجار النخيل التي تتعمق حتى 18 مترا فقط. كما تزايدت كلفة الإنتاج بسبب كلفة الحفر والضخ، مما أدى إلى تراجع الاستثمار في النخيل وساهم في تدهور الواحة."

 

عدو الماء هذا استطاع في ظرف قياسي تضييق الخناق على زراعة عمرت لقرون من الزمن (النخيل)، وهي الآن طور الاندثار. صورنا أمام مقابر جماعية للنخيل، واحة اولاد ادريس التي تعبر عن واقع حال جل واحات إقليم زاكورة.

 

علاوة على كل ما سبق ذكره، ثمة مصيبة عظمى مرتبطة بهذا النوع من رأسمالية المآسي؛ وهي الأسمدة الكيميائية المستعملة في هاته الزراعة لرفع كميات المحاصيل، وما تخلفه من مهلكات للكائنات الحية بما فيها صحة الإنسان والحيوان والنبات، وكذا على النظام البيئي بما فيه من ماء، هواء وتربة؛ في الاستعمال المفرط والعشوائي لهاته الأسمدة في زراعة البطيخ الأحمر، يتسبب في إتلاف خصوبة التربة، تسميم جميع الكائنات الحية. بالإضافة إلى التلوث الذي يلحق بالمياه السطحية والجوفية، والتي تتسبب في أمراض قاتلة، لعل أبرزها السرطان.

 

كانت كتابة الدولة المكلفة بالماء بالمغرب قد أعدت مخططا وطنيا للماء حتى سنة 2030. ومن بين ما يهدف إليه اقتصاد الماء بـ 4,1 مليار متر مكعب في أفق 2020، المحافظة على الموارد المائية السطحية والجوفية والمناطق الحساسة وحمايتها، التغذية الاصطناعية للفرشات المائية والمحافظة على الواحات... وقبل انتهاء أمد هذا المخطط تمت صياغة مخطط آخر فيما اعتبرته الحكومة امتدادا للأول. وهو مخطط للماء يغطي الثلاثين سنة القادمة (2020 – 2050) يهدف هو الآخر من بين ما يهدف إليه توفير 3,2 مليار متر مكعب من الماء في أفق 2030.

 

التساؤل الذي يطرح نفسه هو: هل من تقييم للمخطط الأول حتى يتم تمديده من خلال مخطط ثاني؟ هل فعلا قمنا بتوفير 4,1 مليار متر مكعب من الماء ونحن على مقربة من انتهاء 2020؟ هل بالفعل قمنا بالمحافظة على الموارد المائية السطحية والجوفية بالمناطق الحساسة ومن بينها واحات إقليم زاكورة؟ إن وضع تقييم للمخطط لأمر ضروري وذلك لقياس مدى ملاءمة الأهداف وقياس نسبة تحقيقها، على اعتبار أن ''ما لا يمكن قياسه لا يمكن تطويره أو تحسينه'' كما يؤكد على ذلك الاقتصادي الأميركي المعروف بيتر دراكر "علينا مراجعة كل القرارات دون تردد إذا ما أيقنا عدم صوابها" .

 

هل من تقييم كذلك لـ "مخطط المغرب الأخضر" الذي امتد على مدى 12 عاما (2008 – 2020) خصوصا بالمناطق الجافة؟ ما هي حصيلة المشاريع المنجزة في إطار هذا المخطط؟ هل من متابعة للدعم المخصص لهاته المشاريع؟ هل تم توظيف هذا الدعم في محله؟ هل فكرت الحكومة في التكلفة الاجتماعية والبيئية المصاحبة للنمو الذي تعرفه زراعة البطيخ الأحمر بهذه المنطقة الجافة؟ خلق الثروة بهذا الاندفاع المحموم على ''الذهب الأحمر'' يجب ألا يكون على حساب حياة الساكنة. ساكنة أنذرت أكثر من مرة بوقوع كارثة بيئية بالإقليم، مستشعرة باستمرار دنو شبح العطش وبفحولة أراضيها ويبوستها.

 

واحدة من أكثر الأشياء إثارة للدهشة هو أن للمغرب ترسانة قانونية مهمة وهياكل تنظيمية متعددة تضمن استغلالا مستداما ومعقلنا للماء؛ كالقانون رقم 15 – 36 المتعلق بالماء، الصادر في 16 غشت 2016، والمجلس الأعلى للماء والمناخ، بالإضافة إلى وكالات الأحواض المائية، ثم مجلس الحوض المائي، ولجن العمالات والأقاليم. غير أنه لا يمكن اعتبار كل هاته القوانين والهياكل -والتي لا يمكن إنكار أهميتها- كأمر مكتسب إلا إذا تم استثمارها وتوظيفها من أجل وضع حد للتبديد الذي يلحق بالفرشة المائية الباطنية بالمناطق القاحلة، وإنقاذها من جشع مستغليها. ووضع مَنْ تقع عليه تبعةُ عمل كل تلك الهياكل عند مسؤولياتهم.

 

جفت الحناجر من الخوض في إشكالية الماء بإقليم زاكورة. نظمت العديد من اللقاءات، المؤتمرات والمنتديات... محليا، جهويا ووطنيا، لدراسة تراجع الماء بالمنطقة. خلصت جلها إلى ضرورة التدخل العاجل لحماية الموارد المائية. في هذا الباب، سبق لجمعية درعة الكبرى للتنمية والتضامن أن لامست موضوع الماء والبيئة بإقليم زاكورة في ورشة ضمن يوم دراسي نظم بمراكش. كان ذلك في 19 من نونبر 2017، حضرها أساتذة باحثون، مهندسون، وفاعلون جمعويون ومهتمون .

 

وقف المشاركون من خلال هذا اليوم على التحديات التي تعترض هذين القطاعين المهمين بالنسبة للمنطقة، وخلصوا إلى توصيات مهمة من بينها: ضرورة تثمين الواحات والحفاظ عليها باعتبارها إرثا حضاريا وثقافيا بالمنطقة؛ مع ضرورة صياغة مخططات فلاحية تشجع بدائل زراعية تتلاءم والخصوصيات الطبيعية والمناخية للمنطقة.. الاستغلال العقلاني للموارد المائية؛ إنشاء سدود تلية لتعبئة وتخزين المياه؛ وقف اجتثاث الواحات؛ دعم الاقتصاد الاجتماعي وتقوية قدرات العاملين بالزراعات المحلية...

 

إجمالا، في منطقة جافة كإقليم زاكورة، الأولى هو تأمين الماء الشروب الكافي للساكنة كحق من حقوق الإنسان. كما نبه إلى ذلك تقرير الأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية لعام 2020. والقطع مع مثل هاته الاستثمارات التي لا تِؤتي ثمارها إلا لرأسماليي الكوارث. وألا نقايض جشعهم بتعاسة الناس. وعلى الجهات المعنية أن تتحمل المسؤولية كاملة، وإلا فلننتظر وقوع الكارثة .لا نريد لأرض خصبة متوسلة للحياة أن يصيبها التلوث والدمار، مقترنا باليأس والبؤس لساكنتها.

 

ولربح رهان التنمية بالمنطقة، الأمر يقتضي تدبيرا عقلانيا، تشاركيا، مندمجا، ومستداما للماء والتراب. يلزمنا تبني سياسة زراعية مستدامة ومنسجمة مع الخصوصيات الطبيعية والمناخية للإقليم؛ سياسة تثمن وتؤهل المنتوج المحلي، وتحسن قدرته التنافسية. الحياة من دون بطيخ أحمر بالإقليم ممكنة، لكن بدون نخل تصبح مستحيلة.

 

- عبد العزيز عليلي، فاعل جمعوي