قد يبدو سؤال علاقة الوباء المستجد بالنموذج التنموي الجديد غريبا شيئا ما أو سابق لأوانه، لأن الدولة ما زالت غارقة في هذه الأزمة الصحية ذات الامتداد الدولي، لكن السؤال له مشروعيته إذا ما تمهلنا في التأمل، لأن السؤال جاء في مرحلة يتقاطع فيها مسارين مهمين (مسار بناء النموذج التنموي الجديد ومسار أزمة كورونا المستجد)، إنها مرحلة كانت تعج بأسئلة بناء النموذج التنموي الجديد بعد أن أطفأت هولها الأزمة "الكرونية" التي لا محالة لها تأثيرها في هذه الأسئلة بل ولها أجوبة مفصلية للإشكاليات الأساسية للتنمية في بلادنا.
قبل شهور، أعلن صاحب الجلالة الملك محمد السادس على أن النموذج الحالي للتنمية لم يعد قادرا على الاستجابة للطلبات المتزايدة والملحة للمواطنين والمواطنات، ولا شك أن هذه الأزمة جاءت لتضع يدها على مكامن الخلل من جديد رغم أنها ستزيد الطينة بلة، لكنها ستلقي دروسا مستفيضة في مجال بناء التنمية، وستخضع نموذجنا التنموي لتمرين جديد بعد ذاك الذي أملاه التاريخ من قبل. حيث ما هي إلا أيام من اجتياح هذا الوباء للعالم، وقبل أن تظهر معالمه في الصين، كانت بلادنا مع موعد لتشكيل اللجنة المكلفة ببلورة النموذج التنموي الجديد، هدفها صياغة المعالم الكبرى للنموذج التنموي المرتقب الذي يشكل قطاع التعليم والصحة نواته الأساسية، لكن سرعان ما خفت بريق الأسئلة حول النموذج التنموي بعد أن تم تسجيل الحالات الأولى من هذا الوباء في بلادنا، حيث انهمك الرأي العام والسلطات العمومية والمجتمع المدني في الاهتمام بالآليات والطرق الكفيلة بالتصدي وتدبير هذه الأزمة.
وعليه، تشكل هذه الأزمة الصحية ذات البعد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فرصة للتـأمل من طرف جل الفاعلين لإعادة ترتيب الأولويات في مجال بناء صرح التنمية، فكيف ستؤثر هذه الأزمة في بلورة النموذج التنموي الجديد؟
1ـ السياق العام لوباء كورونا المستجد وتداعياته الاقتصادية والاجتماعية
ظهر هذا الوباء أول ما ظهر في الصين الشعبية، وانقسمت الادعاءات حوله، حيث هناك من اعتبره صنع أمريكي تمت صناعته لمواجهة الزحف الاقتصادي الصيني، وتعزز هذا الاتجاه بعد أن اجتاح نفس الوباء الجمهورية الإيرانية المحاصرة اقتصاديا من طرف الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنين، إلا أن هذه الدعاية ا تراجعت إلى حد الأفول بعد أن امتد هذا الوباء إلى القارة الأوروبية الحليف الاستراتيجي التقليدي للولايات المتحدة الأمريكية.
وقبل انتقال هذا الوباء لأوروبا بشدة وانخفاض حدته في الصين، ظهر اتجاه آخر يدعي أن "فيروس كورونا" مجرد "خدعة صينية" استعملتها الصين كمحاولة للتخلص من المستثمرين الأوروبيين والأمريكيين عن طريق إرغامهم ببيع أسهمهم في البورصة الصينية للحكومة بأثمنة زهيدة.
وبعد أن تأكد أن هذا الوباء امتد ليشمل العديد من الدول وأصبح يأتي على الأخضر واليابس في القارة العجوز، التي تسجل الوفيات بالآلاف يوما بعد يوم اضمحلت هذه الدعاية لتترك المجال لبروز اتجاهين دوليين في مواجهة هذا الوباء وما ينتج عنه من تابعات اقتصادية واجتماعية.
فالاتجاه الأول الذي تتزعمه الصين، التي تتبنى سياسة يمكن أن تتصف "بالأخلاقية" في مواجهتها لهذا الوباء وذلك عن طريق مغامرتها باقتصادها مقابل سلامة رعياها من المواطنين في مختلف الأعمار والحالات الصحية.
مقابل ذلك، تصاعد تيار أوروبي يدعو إلى نهج سياسة "مناعة القطيع" بعد أن ظهر أن النسبة الأكبر من الوفيات جراء هذا الوباء هم الأشخاص المسنون والمصابون بأمراض مزمنة، وبالتالي (حسب هذا الاتجاه) فإنها مناسبة للتخلص من طبقة ظلت تستنزف ميزانية الدولة المخصصة لهذه الفئة من تقاعد وتغطية صحية ورعاية اجتماعية..، وهو تيار يضرب بعمق النموذج الأخلاقي الغربي الذي تأثر إلى النخاع بالرأسمالية التي تكشر عن وحشيتها في أحلك اللحظات.
أما بالنسبة للمغرب فقد حذا حذو الصين، وحاول أن يستفيد من أخطاء الدول المتضررة بشكل كبير من هذا الوباء من قبله، وصارع منذ تسجيل الحالات الأولى من هذا الوباء إلى إغلاق الحدود البحرية والجوية، واتخذ مجموعة من الإجراءات الوقائية والاحترازية وأعلن حالة الطوارئ الصحية دون أن يضع صحة وسلامة المواطنين والقطاع الاقتصادي في نفس الكفة على نحو ما تفعل بعض الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية التي تباطأت في إعلان حالة الطوارئ الصحية لتشهد أزمة صحية غير مسبوقة تفوق جميع الدول.
2ـ النموذج التنموي المغربي في موعد مع تمرين تاريخي
يشكل هذا الوباء العضال مناسبة لاختبار المنظومة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للدول. فقد لاحظنا جميعا الكارثة الإنسانية التي عرفتها إيطاليا جراء هذا الوباء، حيث أمام ضعف السياسة الاستباقية في مواجهة هذه الآفة، انهارت المنظومة الصحية الايطالية بعد الأسابيع الأولى من تعرضها لهذا الوباء بسبب الكثافة العددية للمصابين.
وإذا كانت المنظومة الصحية الإيطالية التي تعتبر من أحسن الدول في العالم من حيث جودة خدماتها الصحية وقيمة مستشفياتها المتميزة بتقنياتها الحديثة وكذا تاريخها العريق في مجال الطب، فما بالك لو تعرضت منظومتنا الصحية المتداعية والمنهمكة أصلا والتي أصبحت تعتمد على القطاع الخاص في سد حاجياتها لمثل هذه الأزمة وبنفس الشدة، لكانت العواقب وخيمة لقدر الله.
وقد كان نظامنا الصحي سيمر من لحظة عسيرة أكبر من التي نشاهدها اليوم، لولا السياسة الاستباقية الحكيمة التي نهجتها الدولة تحت التوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس.
أما المنظومة التعليمية ليست بعيدة عن هذا التمرين، ويظهر ذلك من خلال تأثيرها المحدود في نشر الوعي وثقافة المسؤولية والمواطنة المتشبعتان بروح الوطنية، فأيام قليلة بعد إعلان حالة الطوارئ تمرد بعض الشباب وخرجوا إلى الشوارع متجاهلين العواقب الوخيمة لتلك التجمعات، مما ينم على ضعف الدور الوظيفي للمدرسة المغربية ويحتم إعادة النظر في منظومتنا التعليمية عبر الاهتمام أكثر بالعنصر البشري ووضع مناهجنا التعليمية والبيداغوجية تحت مجهر التقييم والتقويم.
ومن جهة أخرى، فحسنا فعلت وزارة التعليم عندما لجأت إلى إجراءات "الدراسة عن بعد" في إطار الإجراءات الاحترازية لمواجهة هذا الوباء، إلا أن هذه الإجراءات سوف لن تؤت أكلها بالشكل المطلوب وقد تؤدي إلى سنة دراسية غير محمودة العواقب إذا لم تتخذ وزارة التعليم إجراءات أخرى عند نهاية هذه الأزمة، ذلك أن المجتمع المغربي مازال بمنأى عن "مجتمعات المعرفة" سواء من حيث الإمكانيات التكنولوجية والتقنية الكفيلة بإنجاح هذه التجربة أو من حيث الثقافة الشفوية التلقينية السائدة في المجتمع.
أما النهج الاقتصادي المبني على التوجه الليبرالي والمتشبع بالعولمة، فقد أظهر محدوديته ليس فقط في المغرب بل في مجموع الدول التي تتبنى الفكر الليبرالي في تدبير اقتصادها، حيث أن معظم الشركات في هذه الدول تواجه وضعية صعبة اضطرت من خلالها هذه الدول إلى خلق صناديق لدعمها كما هو الحال بالنسبة للحكومة المغربية التي أنشأت صندوق لدعم الشركات في وضعية صعبة جراء وباء كورونا، كما أظهرت هذه الأزمة أن الاتجاه نحو خوصصة بعض القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحة ودعم القطاع الخاص على حساب القطاع العام أمر مردود عليه، وبالتالي وجب على الدولة إعادة توجيه استثماراتها بشكل مكثف نحو القطاع العمومي خصوصا في قطاعات التعليم والصحة والأمن و إعادة النظر في الفكر الليبرالي الذي تعتمده .
3ـ النموذج التنموي الجديد والدروس المستخلصة من أزمة كورونا المستجد
تشكل هذه الأزمة الصحية ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية مناسبة للتأمل بالنسبة للجنة الوطنية للنموذج التنموي لاستخلاص الدروس والعبر، فهي تعكس بوضوح القطاعات الأساسية التي تشكل قوة ومناعة الدولة والمجتمع والتي تفرض على الدولة التركيز عليها في طريقها نحو بناء مغرب المستقبل.
لكن، هذا لا يدل على أن الدولة معنية بإهمال القطاعات الأخرى، بل الأمر يتعلق بإعادة ترتيب الأولويات، وبدون مفاضلة فإن القطاعات التي توجد في الخط الأمامي والتي أظهرت هذه الأزمة على أنها تشكل قوة الدولة في مواجهة التقلبات هي الصحة والأمن التي تشكل امتدادا صريحا ومرآة عاكسة لجودة المنظومة التعليمية التي تعتبر الحجر الأساس في تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة.
بالإضافة إلى ذلك، تشكل هذه الأزمة مناسبة لإعادة النظر في النموذج الاقتصادي المبني على الفكر الليبرالي والتبعية للخارج، وذلك بما يسمح لهذا القطاع بتشكيل مناعة ذاتية يواجه بها مثل هذه التقلبات والتراجع عن سياسة الانفتاح الكلي على الخارج، وكذا تقوية القطاع الاقتصادي لكي يلعب دوره كاملا في دعم القطاع الاجتماعي خصوصا في مثل هذه الأزمات.
وبالتالي، فاللجنة الوطنية للنموذج التنموي الجديد، معنية أكثر بالتأصيل للاختيارات التي فرضتها هذه الأزمة التاريخية وصياغتها وترتيبها حسب الأولوية.
كريم الصنهاجي، باحث في القانون العام والعلوم السياسية