إدريس لكريني: العالم وأولويات ما بعد الوباء

إدريس لكريني: العالم وأولويات ما بعد الوباء

يمرّ العالم بلحظة عصيبة ومنعطف حاسم، يقتضي التعلّم من التجربة القاسية، عبر إعادة النظر في مجموعة من السياسات والأولويات، بما يكفل إرساء ركائز لمجتمع دولي متعاون.

 

تتزايد حدّة الهلع والخوف بصدد الانعكاسات المستقبلية لوباء «كورونا» على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية اقتصادياً وسياسياً واستراتيجياً..، كما تتناسل الأسئلة الحارقة في خضم التداعيات الخطرة التي يخلفها انتشاره على امتداد مناطق مختلفة من العالم، بين من يرى فيه محطّة قاسية ستكون لها انعكاسات كبيرة بالنسبة للدول، ولطبيعة النظام الدولي الراهن، وللتوازنات المتحكّمة فيه بشكل عام، ومن يعتقد بأن العالم سيخرج قويّاً ومتضامناً من هذه التجربة.. وبين هذا وذاك يظل السؤال الُملحّ هو: ما إذا كان الأمر سيسمح بالاستفادة من هذه التجربة القاسية التي مست كل دول العالم برمتها، أم هذه الأخيرة ستستمر في أخطائها وصراعاتها التي عمّقت المأساة أكثر؟

 

بغضّ النّظر عن هذه الأسئلة المتباينة، يمكن القول إن الوباء وما ترتّب عليه من تداعيات وارتباكات وتدابير غير مسبوقة على المستوى العالمي، يفرض إعادة النظر في عدد من السياسات، ومراجعة الكثير من الأولويات العالمية، ما بعد محاصرة الوباء، بما يسهم في تحويل الكارثة إلى فرصة حقيقية؛ لاستخلاص العبر والدروس الكفيلة بتحصين الأجيال القادمة من مختلف المخاطر والأضرار..

 

فعلى المستوى الدولي، تظل الحاجة مُلحّة إلى التعاطي مع مفهوم السلم والأمن الدوليين بصورة شمولية وأكثر انفتاحاً، فقد أكّد الوباء أن الأمراض والأوبئة الخطرة؛ تعدّ من ضمن أهمّ التهديدات التي تحيط بهذا المفهوم؛ بل إنها تتجاوز في جزء كبير من تداعياتها، مخاطر الحروب، وهو ما يتطلب إعادة النظر في سياسات التسلّح التي تنصب على المجال العسكري، وترصد لها إمكانات اقتصادية ومالية ضخمة تفوق عدداً من القطاعات المدنية، وتحويل جزء كبير منها نحو الاستثمار في المجالات الطبية والعلمية.

 

إن ما يدفع نحو هذا الطرح، هو أنه وعلى الرغم من الإمكانات الضخمة التي رصدتها الدول في مجالات التسلح بكل أشكاله، فإن ذلك لم يحل دون تمدّد الوباء وتوغله داخل الدول الغربية المتقدمة، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، فلا الصواريخ العابرة للقارات، ولا الطائرات الموجهة عن بُعد، ولا حاملات الطائرات ولا القنابل النووية.. سمحت بردع هذا الفيروس أو أوقفت زحفه..

 

ويوماً بعد يوم يتأكد أن مصير الإنسانية واحد، وأن التهديدات البيئية وما يحيط بها من تلوّث واحتباس حراري وندرة المياه والغذاء.. وتلك التي تطرحها الأوبئة والأمراض الخطرة العابرة للحدود، تمثل أحد التحديات الكبرى التي تقتضي التضامن، واستحضار المشترك، وتعزيز الحوار.

 

إن تصاعد حدة هذه المخاطر التي تشكّل تهديداً حقيقياً لحياة الإنسان على كوكب الأرض، ينبغي أن تدفع نحو مزيد من التنسيق والتعاون الدوليين، وتكثيف الجهود والمبادرات الرامية إلى تعزيز السلم والأمن الدوليين بكل عناصره.

 

وعلى المستويات الوطنية، أصبح من اللازم والضروري، إعادة النظر في السياسات العمومية عبر ترتيب الأولويات من جديد في هذا الصدد، وبخاصة على مستوى تشجيع البحث العلمي في كل المجالات ورفع قيمة الدعم المالي المخصص له من قبل الدولة والأفراد، وكذا تطوير قطاع التعليم بكل مستوياته؛ من حيث تعزيز البنيات الأساسية، وتعزيز كفاءة العنصر البشري، وتطوير المناهج والمخرجات انسجاماً مع المتغيرات التي تشهدها المجتمعات والواقع الدولي، فهاتان المنظومتان هما البوابتان الحقيقيتان لكسب رهانات التطور والتنمية، كما يشكلان معاً أساساً لعقلنة وتجويد القرارات المتخذة، وتوجيهها نحو خدمة المجتمع وقضاياه.

 

أصبح من الضروري أيضاً إيلاء الاهتمام الكافي لتقنية إدارة الأزمات والكوارث كأسلوب مستدام ضمن أجندة الدول؛ بل وأضحى لزاماً إحداث مراكز علمية دائمة؛ لرصد وتتبع ومواكبة الأزمات والكوارث على المستويات الوطنية، علاوة على إحداث مكاتب تهتم بهذا الموضوع ضمن الأقسام الإدارية للمؤسسات الحكومية والخاصة.

 

كما ينبغي أيضاً إدراج مواد وتخصصات تُعنى بإدارة الكوارث والأزمات ضمن جميع الأقسام التعليمية، وضمن كل المستويات داخل عدد من التخصصات، كسبيل لترسيخ ثقافة تدبير الأزمات في أوساط النشء، وتوفير مناخ اجتماعي سليم قادر على مواجهة الأزمات والكوارث بقدر من الجاهزية، وعدم الاستخفاف، إضافة إلى تدريب وتطوير قدرات عدد من الأطر الإدارية في هذا الخصوص..

 

يمرّ العالم بلحظة عصيبة ومنعطف حاسم، يقتضي التعلّم من التجربة القاسية، عبر إعادة النظر في مجموعة من السياسات والأولويات، بما يكفل إرساء ركائز لمجتمع دولي متعاون، ومتضامن، ولتحقيق تنمية مستدامة تقوم على تقاسم المعرفة والتكنولوجيا، من دون استغلال منحرف لحقوق الملكية الفكرية للدواء، وتستحضر (التنمية) الإنسان كوسيلة وهدف؛ لمواجهة تهديدات ومخاطر شتّى، لم تعد تستثني مجتمعاً دون آخر في عالم اليوم.

 

عن يومية "الخليج"