أباح الطاهر التجكاني، رئيس المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة دفن دفن أموات المسلمين في المقابر العمومية بالبلاد الأوروبية، نظرا للظروف التي يمر بها العالم في هذه الأيام العصيبة مع تزايد أعداد ضحايا وباء كورونا الذين يتساقطون يوميا، فيتعذر معها نقل جثث أموات المسلمين إلى بلدانهم الأصلية، مقدما الدليل بالنصوص الشرعية والقطعية:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد، فلقد كثر السؤال في هذه الأيام عن حكم دفن أموات المسلمين في المقابر العمومية بالبلاد الأوروبية، وخاصة في الأماكن المخصصة لدفن أموات المسلمين، ولقد سبق للمجلس أن أصدر بيانا مفصلا حول هذا الموضوع، وها نحن -من جديد- نؤكد للمسلمين أنه يجوز شرعا دفن أموات المسلمين في بلدان إقامتهم بأوروبا، نظرا للظروف التي يمر بها العالم في هذه الأيام العصيبة (أيام وباء كورونا)، والتي يتعذر معها نقل جثث أموات المسلمين إلى بلدانهم الأصلية !
وأضيف وأؤكد هنا: أنه لا يجوز الاحتفاظ بجثث الأموات في الثلاجات إلى أجل غير معلوم؛ فدفن الميت -كيفما كان الحال- يعد تكريما له وسترا، وتركه في الثلاجة لمدة مجهولة يعتبر انتهاكا لحرمته، وتعذيبا لأهله، والسنة قاضية بالمسارعة في تجهيز الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أَسْرِعُوا بِالْجنَازَةِ…)) متفق عليه.
مع العلم أن الأرض كلها لله، فأينما دفن الإنسان فهي أرض الله، قال الله تعالى:{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } (سورة البقرة).
وفي موطأ الإمام مالك رحمه الله أن أبا الدرداء رضي الله عنه كتب إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه: أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ ! (وكان أبو الدرداء يقيم في الشام وسلمان الفارسي يقيم في العراق ) فكتب إليه سلمان الفارسي رضي الله عنه: (إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ ! ). فالذي يزكي الإنسان فوق الأرض وتحت الأرض هو عمله الصالح، لا شيء آخر !
على أنه ورد في الحديث الصحيح، الذي رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما وابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعب الإيمان والطبراني في المعجم الكبير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: توُفِّيَ رجلٌ بالمدينةِ مِمَّن وُلِدَ بالمدينةِ فصلَّى علَيهِ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ: يا ليتَهُ ماتَ في غيرِ مولدِهِ! فقالَ رجلٌ منَ النَّاسِ: ولمَ يا رسولَ اللَّهِ؟ قالَ إنّ َالرَّجلَ إذا ماتَ في غيرِ مولدِهِ، قِيسَ لَهُ من مولدِهِ إلى منقَطعِ أثرِهِ في الجنَّةِ!)، وهذه المسافة التي تعطى له في الجنة هي جزاؤه. قال السيوطي نقلا عن الطَّيِّبِيّ: (المُرَاد أَنه يُفسح لَهُ فِي قَبره مِقْدَار مَا بَين قَبره، وَبَين مولده، وَيفتح لَهُ بَاب الْجنَّة).
وقد ذكر ابن القيم في (مدارج السالكين) رواية أخرى توضح الجزاء أكثر: « وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: يَا لَيتهُ لَوْ مَاتَ
غَرِيبًا! فَقِيلَ: وَمَا لِلْغَرِيبِ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ؟ فَقَالَ: مَا مِنْ غَرِيبٍ يَمُوتُ بِغَيْرِ أَرْضِهِ، إِلَّا قِيسَ لَهُ مِنْ تُرْبَتِهِ، إِلَى مَوْلِدِهِ فِي الْجَنَّةِ!» اهـ.
أضف إلى هذا أن الكثير من الصحابة رضوان الله عليهم ماتوا ودفنوا في غير موطن ولادتهم؛ فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه قضى آخر أيامه بمدينة حمص، حتى مات بها، ودُفن بها، وقبره معروف هناك، وبلال الحبشي، المؤذن، رضي الله عنه مات في (طاعون عمواس) بدمشق الشام، ودفن هناك؛ بل بعضم دُفن في بلدان غير إسلامية، فعلى سبيل المثال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: قبره معروف ومشهور بمدينة القسطنطينية (استانبول التركية)، ولم تكن مدينة استانبول آنذاك بلدا إسلاميا كما هو معلوم، و الذين هاجروا إلى الحبشة بعضهم مات هناك ودفن هناك.
وأنا أعرف جيدا أنَّ قانون المقابر في البلدان الأوروبية يختلف عن قانون المقابر في البلدان الإسلامية؛ لكن للضرورة أحكام ، فقاعدة (الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ) قاعدةُ كليةٌ ذهبيةٌ، اعتمدها الفقهاءُ جميعا من كل المذاهب، وَيَدْخُلُ تَحْتَ هَذِهِ القَاعِدَةِ مِنَ الصُّوَرِ والنوازل والحالات مَا لَا حَصْرَ لَهُ. ونحن في هذه الأيام (أيام الوباء) مضطرون مجبرون، لا مختارون مترفهون، وقد قال ربنا -سبحانه وتعالى-: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
( سورة البقرة).
ثم إن المرء ليتساءل بصدق: أين يدفن المسلمون من أصول أوروبية؟ أليس في مسقط رأسهم، وموطن إقامتهم؟ أو ليسوا جزءا منا؟ فهل يليق بنا أن نفكر في أنفسنا ولا نفكر فيهم !؟
وفي الختام، أحب أن أطمئن الجميع أن هذا الجواب العاجل يُقصد به حل مشكلة معينة، في زمن معين، وظروف معينة، وأنه بمجرد ما يزول المانع، وتنكشف هذه الغمة، وتنتهي محنة كورونا -قريبا إن شاء الله- سيعود الأمر إلى طبيعته، وإلى ما كان عليه سابقا، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب!.
الطاهر التجكاني، رئيس المجلس الأوروبي للعلماء المغاربة.