كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن استهلاك أفراد المجتمع المغربي للمواد الملوثة للبيئة، ومنها على الخصوص الاستعمال المفرط للبلاستيك حيث صار يستهلك من هذه المادة أكثر مما هو مرغوب فيه، وهذا ما يخلف أطنانا من النفايات ويؤدي إلى أضرار وخيمة على البيئة ويسبب تأثيرات سلبية على الصحة.
وصار الزجاج والورق من البدائل التي انتشرت في المغرب للحد من استعمال المواد البلاستيكية، وأصبحنا نشاهد هنا وهناك حملات تحسيسية ومبادرات للتوعية وإبداعات مختلفة تجعل تلك النفايات الملوثة صديقة للبيئة، وفي هذا الاتجاه انبثقت تجربة محلية في مدينة سيدي إفني حيث بادرت الأستاذة هدى فردوس إلى الانخراط التطوعي من أجل تحويل المواد البلاستيكية إلى أعمال فنية ذات دلالات عميقة، إما بشكل شخصي أو مشترك مع تلاميذها، وعرض هذه المنتوجات الفنية في معارض داخل الفصل الدراسي أو المؤسسة أو غيرهما..
وتسعى من خلال هذه التجربة الميدانية تحقيق تعليم جيد يتيح أمام التلاميذ فرصا متساوية لإبراز مواهبهم الفنية، والحرص على التقليل من النفايات وإعادة تدويرها وتوجيه هذه الفئة نحو أنماط استهلاك أكثر استدامة.
الأستاذة الفنانة والمواد البلاستيكية
هدى أستاذة تدرس مادة التربية التشكيلية بثانوية الحسن الأول الإعدادية بمدينة سيدي إفني، تقوم بهذا العمل ما يقارب العشرين سنة. أقامت رفقة فنانين آخرين معارض جماعية: بتيزنيت سنة 2003 وبسيدي إفني سنة 2004.. وركزت أعمالها المنجزة على المآثر التاريخية بدرجة أكبر، فأعادت الحياة إليها عبر بصماتها الفنية. وبمناسبة احتضان المغرب لمؤتمر المناخ "كوب 22" انخرطت في إعداد أعمال فنية عديدة بشكل مشترك مع تلاميذها الموهوبين، حيث اعتمدت فيها على أمواج البحر والدرجات اللونية.
وأنت تجالس الأستاذة أو تحاورها تبهرك شخصية الفنان المتزن الهادئ، وتتأكد لك تجربتها الفنية التي انطلقت منذ زمن، حتى أن مشاريعها الشخصية لم تتوقف فهي متجددة وحاملة لرؤى وأبعاد لا حدود لها.. شغفها بالفن والابتكار جعلها تنجز أعمالا عديدة وقطعا فنية متنوعة، ارتكز جزء مهم منها على النفايات البلاستيكية، واستلهمت مواضيعها ومحاورها من الممارسة الصفية ومن فضولها الشخصي حول المحيط الذي تعيش فيه. غالبا ما تدفع تلميذاتها وتلاميذها إلى المحترف -الفصل الدراسي- حتى تبدع أناملهم، بتوجيهاتها وإرشاداتها، تحفا رائعة وقيمة لا زالت تحتفظ بغالبيتها في خزانة القسم وزواياه وطاولاته الأمامية.
توظيف النفايات البلاستيكية داخل بعض اللوحات الفنية للتلاميذ بمناسبة كوب 22
النفاية البلاستيكية مصدر لأعمال فردية وجماعية
لقد أبدعت الفنانة هدى بشكل فردي وآخر جماعي مع التلاميذ، فأنجزت لوحات ومجسمات وتصاميم وأشكال مختلفة.. منهجها في العمل المدرسة التجريدية. وما يلفت النظر في منجزها هو تركيزها على المخلفات اليومية لأدوات نستعملها بحاجة أو بدون حاجة، والبحث في بقايا المحيط الخارجي خاصة النفايات البلاستيكية القديمة غير الصالحة، ثم العمل على تحويلها إلى أعمال فنية تثير التأمل والإعجاب.
إن عملية تحويل البلاستيك إلى عمل فني يستوجب خطوات متباينة، تنطلق من جمع النفايات البلاستيكية في الشواطئ التي تنتشر فيها بكثرة، أو في الأماكن البرية كالجبل أو الغابة أو في الشوارع أو حتى الأسواق.. وهي عبارة عن قنينات وأكياس بلاستيكية وعلب مواد فارغة.. ثم إحضارها إلى مكان الاشتغال وفيه يتم غسلها وتنظيفها، بعدها يوضع التصميم المناسب للمنتوج الفني المراد إنجازه، فالشروع في تحويل المواد والنفايات البلاستيكية إلى لوحات فنية ذات جمالية، وبعد أن تصير نهائية توجه للعرض أمام الجمهور.
ولجذب الاهتمام إلى هذه المنتوجات ومنحها حياة جديدة، تتبع الأستاذة عمليات مختلفة أبرزها التقطيع والتركيب والتلصيق.. في حين توجد هناك أكثر من تقنية لتدوير النفايات البلاستيكية كالتصنيع "نسج ألبسة.." والتذويب في مجالات وقطاعات حيوية.. وهي تشتغل أيضا على مواد أخرى من مثل: الحديد، الكارتون، الثوب، الألواح الخشبية، المتلاشيات.. لإنتاج أعمال تجريدية تستهوي المتتبع والمتلقي.
البلاستيك بين الفن والبيئة
هذه الأعمال الفنية المعتمدة على المواد البلاستيكية موجهة إلى جميع الفئات العمرية من تلميذات وتلاميذ وأستاذات وأساتذة وأولياء الأمور.. غير أن الأطفال والشباب هم الأكثر استهدافا من باقي الفئات الأخرى، إذ يسهل استدراجهم للإبداع الفني واكسابهم المفاهيم البيئية التي لا تتعارض مع أن الفن صديق للبيئة، ولم لا تغيير سلوكاتهم السلبية إلى أخرى إيجابية لتحقيق الاستدامة. كما تروم الأعمال المنجزة نشر الوعي بأهمية تدوير المواد البلاستيكية وذلك بتحويلها من مواد مضرة للإنسان والمجال المحيط به إلى مواد غير مزعجة وذات قيمة جمالية، فالعمل على الحد من خطورتها يعد تثمينا ومصدرا ملهما للعمل الفني.
وعلى الرغم من المجهودات المبذولة في جعل النفاية البلاستيكية صديقة للبيئة إلا أن هناك عوائق تقف أمام الأستاذة هدى لتطوير منجزها الفني منها انعدام مرسم خاص يتيح قابلية الاشتغال الدؤوب، وانحباس الفصل الدراسي باعتباره فضاء للتدريس وورشة للإبداع الفني، إضافة إلى غياب مستودع بالمؤسسة أو معرض قار يخصص للحفاظ على هذا الكم الهائل من المنتوجات والأعمال، دون أن نغفل التكلفة المادية التي تتطلبها إعادة تحويل القطع البلاستيكية وإسناد الحصص الأسبوعية الكاملة للأستاذ لا يترك متنفسا ومجالا للإبداع..
لوحة فنية من البلاستيك تجسد محطة انتظار الحافلة
في أفق بناء سلوكات إيجابية لحماية البيئة
وعليه أصبح لزاما التفكير الجدي في توعية أفراد المجتمع لاسيما الشباب بأهمية تدوير النفايات البلاستيكية من أجل بيئة مستدامة الشيء الذي يستلزم حملات تحسيسية وازنة وورشات تكوينية بغرض خلق التوازن البيئي، وما على الجهات المعنية إلا المساهمة في تشجيع مثل هذه المشاريع المبتكرة وتحفيز المشرفين عليها، ولما لا توفير مراكز وورشات لاشتغال هؤلاء المبدعين سواء داخل المؤسسات التربوية أو خارجها، وأضحى ضروريا تخصيص فترات زمنية قارة من الزمن المدرسي لمثل هذه المبادرات الطموحة، حتى تقليص جدول الحصص الأسبوعي صار مطلبا ملحا لأساتذة مادة التربية التشكيلية للتفرغ لهذه العمليات وإضفاء حركية إبداعية تنير المؤسسات التعليمية وتزيدها جمالا وإشعاعا، والمؤكد أن إبرام شراكات داعمة لهذه الأنشطة البيئية الفنية ستؤدي إلى الإقلال من المواد الملوثة وتنشر الابتكار الخلاق، وهناك من يذهب إلى أبعد الحدود إذ يرى أن تحويل البلاستيك إلى تحف فنية يمكن أن يصير فنا قائما لذاته مؤثرا على الذوق الفني والحس الجمالي العام في المستقبل القريب!