بنيعيش: "صفقة المقابر من مسرحية الحكيم" (دلالات وامتدادات)

بنيعيش: "صفقة المقابر من مسرحية الحكيم" (دلالات وامتدادات) محمد بنيعيش

أولا:من الخوف ما سكن ومن المسرح ما شحن.  
لم تشدني مسرحية أدبية مثلما شدتني وجذبتني إليها تلك المعنونة ب"الصفقة"للكاتب الكبير والروائي العربي العالمي "توفيق الحكيم" كاسم على مسمى.
لكن المثير هو أنني قد قرأت هذه المسرحية منذ مرحلة شبابي وما زلت أقرأها لحد الآن باللغة الفرنسية تحت عنوان » « pour notre terre وهي من ترجمة F .MOUSSALEM وA.ADOPOL كما قدمها بأسلوب رائع وفرنسية أدبية تحليلية دقيقة ALEXANDRE PAPADOPOULO بحيث إن هذا التقديم قد أفادني كثيرا فيما يخص فن المسرح وتشابك المشاهد فيه ومعها الفلسفات المتناقضة والمتداخلة من واقعية ومثالية وسريالية وسريانية وإغريقية ورمزية ووصفية...
وفي نفس الوقت استفدت جيدا من نبذة مركزة عن حياة توفيق الحكيم والمراحل التي مر بها ومدى عمق تفكيره وتحديه للواقع والمجتمع والسياسة ،ثم كيف انجذب صادقا نحو الفن الروائي والمسرحي وكيف نغص على مديريه وناقض رغبة أبيه...
ومسرحية "الصفقة "من أولها إلى آخرها مشوقة ومثيرة ،وذات بعد اجتماعي ونفسي دقيق ومعقد بمعنى الكلمة.محورها عقدة الخوف المسبق الذي  قد يجتاح الضعيف في مواجهة القوي حالا ووجدانا،والذي من خلاله يجعله يتنازل بدون مبرر أو مقابل عن حقوقه ومصالحه ليزيد الغني غنى والطاغية طغيانا، والضعيف وهَنا والفقير فقرا إلى الأبد.وهذه الحالة تكاد تشبه "متلازمة ستوكهولم "في عمقها النفسي وعقدها،بحيث قد يتعاطف الضحية مع معذبه المجرم ويسعى لحمايته، شيء غريب وعجيب فعلا!!!
ولا أريد هنا أن أسهب في تحليل مشاهد المسرحية وفصولها فهذا ما قد يتطلب متسعا من الوقت لا يحتمله المقال والمجال، ولكن مما استوقفني كثيرا فيها هو تلك النقطة الظلامية الشاذة في بؤرة المجتمع القروي حيث تجري الأحداث، والتي تمثلها شخصية الحاج عبد الموجود، باعتباره رجل تدين و مسؤولا عن الأموات في القرية، أي مديرا للشؤون الأخروية، وبتقمصه كذلك زي الصلاح والعلم الشرعي مع شهادة الذهاب إلى الحج ثلاث مرات.
بحيث يبدو هذا الحاج ،مع أنه قد كان يكتفي بمراقبة الأموات، ذا ثروة كبيرة، أكبر ممن في القرية جميعا ،فلاحين وحلاقين وتجار وصناع. ولم يكن أهل القرية يعلمون سر مصدر هذه الثروة ،مع أنهم بمجموعهم لم يستطيعوا تسديد ثمن الأرض البسيط، لشرائها من الشركة البلجيكية التي كانت تمتلكها في ذلك الوقت. وفي اللحظة الحرجة وعند نفاد الجهد لجمع المبلغ المطلوب لم يعد للجماعة من مرجع لسداد ما تبقى سوى التلميح إلى الحاج عبد الموجود صندوق القرية،والخبير بطريقة دفن الأموات وما يلزمهم من أكفان وتوابيت ووو.
فكان الاستعطاف والترجي والاستحلاف إلى أن لان قلب الحاج، ولكن بشروط التربح والرهون والفوائد وما في حكمها.ومع هذا قبل الجميع وقبّل رأس ووجنتا الحاج مع الدعاء والهتاف له بطول العمر!. وسيتناسب التقابل بين "مدير الشؤون الأخروية" و"مدير الشؤون الدنيوية" عند ظهور البيه "حامد بك أبو راجية" أحد الأرستقراطيين بالقاهرة، ممن يعقدون الصفقات حول كل شيء، ويلتهمون السوق التهاما ويلهبون الأسعار التهابا عند المزاد العلني وغيره بقصد الشراء أو مجرد الضغط!!!.وهذا ما جعل أهل القرية ،عند ظهوره فجأة بضواحيها، يتوهمون توجسا أنه جاء يزايد عليهم في الأرض: الأمل والمستقبل!. بينما في الحقيقة كان مروره بالمنطقة هذا عرضيا ولعطب وقع لسيارته. فكان أن جعلهم يهرعون إلى الحاج عبد الموجود ،بنْكهم الذي لا يعرفون غيره ولا من أين مصدر ثروته. 
لكن وفي النهاية سيحدث له ما لم يكن في الحسبان، وهو أن جدة تهامي ستتوفى وستترك وصيتها وما وفرته في حياتها عند الحاج، ولكن الحاج سيتغيب في الصبح الأول بعد الدفن مباشرة ولغير سبب مفهوم ولا معلوم. مما سبب الإحراج لتهامي، الذي حسب العوائد سيكون ملزما بتهييء المأتم والولائم والمناحات، حيث يتصنع النواح والصراخ والبكاء لشحن أجواء الجنازة والأحزان على الميت،ككل شيء متكلف!.
لكن "خميس أفندي" أحد موظفي الشركة بالبندر سيطمئن الجميع بأن الحاج لابد وأن يعود في المساء المتأخر كما هي العادة لأنه كان في أوقات معلومة يمر به عند البندر !. وهنا يكمن السر ،والذي لم يكن يعلمه سوى خميس الذي لم يكن يأبه له أهل القرية ولا يعتبرون كلامه، لأنه كان في نظرهم سكيرا ولكن  مع ذلك كان صادق القول والمحبة لأهل القرية.
ومجمل السر هنا هو أن الحاج النقي النزيه المتدين والحريص على مصلحة الموتى سيكون هو المستثمر الأول والأسوأ على حسابهم أحياء وأمواتا، والمنتهز لعجزهم وفقرهم،فقد كان ينبش ويكشف جثثهم بعد دفنها، ثم يفرغها من توابيتها وأكفانها ليعيد بيعها كصفقة تجارية للبائع الأول وبثمن أقل من البيع الأصلي ،في دورية متواصلة على حساب الموتى وأحزان الآخرين. ولهذا فالتابوت لا يمكث فيه الميت سوى بضع ساعات ثم ينزع منه في الليل البهيم ويحمل إلى محل الصفقة...


ثانيا: من صفقة المقابر إلى صفقة القرن أية مقاربة
إنه واقع شبيه نسبيا بالذي يعيشه أهل زماننا تحت شعارات مختلفة للاتجار بالدين والمقدسات والتراث والميراث ،والاهتمام المفرط بالمقابر والأضرحة وإعادة الترميم للبالي من الأطلال والسمسرة فيها بل حتى في الأعراض ومرتكزات الشرف. والكل يؤول عمله باسم حب الدين والأمة والمصلحة العامة واستحضار الماضي فينفق فيه الملايين بل الملايير أغلبها تسجل في الحسابات الخاصة،بينما الفقر يعكر غباره الآفاق والأحزان تفتت الأكباد والجهل يجثم على العقول ويجمد المداد.
والعجيب أن كل هذا قد يغطى باسم الصلاح والفتوى الشرعية والدبلوماسية والمصلحة الوطنية، ولكن بصفقات لا يعلم سرها سوى خميس في يوم الخميس. ومن هنا جاءنا الوهن لأن الموتى قد أصبحوا عندنا أكثر قيمة وأولى اهتماما وإنفاقا من الأحياء. فماتت قلوبنا بالطبع والملازمة. إذ كل ملازم لشيء سيصبح جزء منه حالا ومقالا. حتى إن بعض العلماء قد ذهب إلى اعتبار ملازمة الكعبة لوقت طويل كبناية قد يؤثر على موقفه منها وفقدان تعظيمها مع ما لها من حرمة ومكانة دينية ،إذ الغاية ليس البناء وإنما رب الكعبة ومراقبة حال القلب عندها مع الله تعالى. وهذا ما لا يفهمه كثير من فقهائنا ومتعالمينا فما بالك بعامتنا.
وربطا للموضوع بمصطلح "صفقة القرن" هاته التي تقدم بها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" وأرقت العرب وغيرهم، فإن الأمر ليس بغريب طالما أن الكل مستعد ليعقد الصفقات ولو على حساب الأموات، فما بالك بالصخور والبنايات. خاصة وأن هذا الرئيس الجريء متخصص في الصفقات التجارية المادية الكبرى، تماما كحميد بك أبو راجية الذي كان يلوح بعصا احتكار السوق والتفقير للجميع لأنهم ضعفاء وجبناء! فلم لا يتاجر حتى في المقدسات الدينية والمؤسسات الجامعية العلمية وكل مركز حضاري، طالما أن أهلها أنفسهم لم يحترموها ولم يفهموا مغزاها وحولوها إلى مقابر وأضرحة وأصرحة تاريخية وهياكل لا غير.
إذ الجل يتاجر  ويسمسر ويناقص ويزايد ويتربح بها في المجامع والمجالس والمنتديات والمؤتمرات،بل حتى محراب العلم قد يهدم ومباحثه الأكاديمية المعمقة تختزل في تفاهات قد حولت الأستاذ والعالم والجامعي في أوطاننا إلى حكواتي وماكناتي وصفقاتي وموضوع نكاتي!!!.. فترامب هنا، ومن وجه آخر، بمثابة خميس الذي كشف سر الحاج عبد الموجود، المبادر الأول للصفقة وسمسار الموت و الآخرة، وضغط عليه لينفق ،رغما عن أنفه، على مصالح أهل القرية ليعوضهم ما قدموه بغير مقابل ولا ضرورة لحميد بك وإلا فسيكشف سره، وفعلا كشفه في لمحة حتى كاد أهل القرية أن يوقعوا بالحاج المتاجر بالموتى، لكن خميس تراجع بعد ذلك وكذب نفسه أمامهم حينما أعلن الحاج أنه سيقوم بكل ما يأمره به، وبذلك بقيت صفقة المقابر في سريتها!!!. فهل بعد "صفقة القرن" هاته سيتراجع تجار الدين والعلم والسياسة والقومية والوطنية ويلغو صفقات المقابر والأموات الحسية والمعنوية حتى يصيروا هم أنفسهم أحياء لكي يتراجع ترمب ومن في شاكلته عن التهديد؟ إنه فعلا الابتزاز الصريح والفضيح لكل من يتاجرون بالقضية الفلسطينية وبالقدس الشريف وبالمواطنة، بل بالدين وروحه ككل، وإنها لعلى نفسها جنت براقش! ولو كنا على ثبات وصدق من أمرنا ومبادئنا لما آل بنا الوضع إلى هذا المستوى.. ولكن: "لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا".

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب