عبد الله الورياغلي الأجديري: المغرب.. بوادر انقلاب أصولي

عبد الله الورياغلي الأجديري: المغرب.. بوادر انقلاب أصولي أحمد الريسوني (يمينا) ومصطفى بنحمزة

من نافلة القول أن مشكلة الامن الديني والروحي للمغرب تحتل مكانة بارزة ومركزية وحتى مصيرية في الأمن القومي المغربي، وذلك لاعتبارات تتصل بطبيعة المجتمع وبنائه الثقافي والحضاري والاجتماعي الذي يحتل فيه المعتقد الديني قطب الرحى وعاملا مؤثرا في كثير من الديناميات والتدافعات في تاريخ المغرب المعاصر. فعندما أراد الملك الراحل الحسن الثاني أن يهيئ لانقلابه على حكومة عبد الله ابراهيم وعلى الحركة الوطنية عامة كان الدين أحد مفاعيل هذا الانقلاب فاستبدل المشروعية الدينية التي يحتاجها النظام السياسي من مشروعية بمرجعية مغربية يمثلها إسلام القرويين ونخبها العلمائية بمشروعية أصولية إخوانية استوردها النظام آنذاك من المشرق تمثلت في دار الحديث الحسنية التي أسند إدارتها للإخواني السوري فاروق النبهان. وعلى الرغم من أن أغلب نخب القرويين كانوا في تلك الفترة جامعة بين التكوين الديني والنضال السياسي كما جسدتها أغلب أطر وقيادات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فإن هذا التحول شكل بداية التغلغل الأصولي في بنيات الدولة والمجتمع ضمن نسق سياسي كانت تلعب فيه الإسلاموية دورا وظيفيا يتم تكييفه حسب كل مرحلة، وهو ما أدى بالنتيجة الى استبعاد وإقصاء كل النخب العلمائية المغربية التقليدية من المشهد الديني بالرغم من حيادها السياسي والإيديولوجي لانهم حسب التقييم الأمني والسياسي لا يصلحون للتوظيف السياسي والايديولوجي لضرب اليسار وكل القوى الحية الوطنية.

 

لم يكن الغرض من هذه التوطئة التأصيل والتأريخ للوجود الأصولي فذلك بحث آخر ليس من التحملات الفكرية والتحليلية لهذه الورقة، ولكن فقط لأن الضرورة المنهجية تقتضي أن نبسط بعض المقدمات لفهم أكثر عمقا للتحديات الخطيرة والوجودية التي باءت تشكلها الحركة الاصولية في المشهد المغربي حيث انتقال الهيمنة الاصولية من الحقل الديني إلى الحقل السياسي. وهنا عقدة المشكلة وجوهرها لأنه وللأسف الشديد بالرغم من أنه أضحى اليوم من المستحيل هزيمة الحركة الأصولية في المعترك الحزبي السياسي دون التصدي لسيطرتها على مفاصل الحقل الديني الذي يشكل عمقها الاستراتيجي والتنظيمي بما يوفره من لوجستيك مادي وايديولوجي، فإن أي من الأحزاب السياسية ذات المرجعية الديمقراطية لا تثير مطلب وسؤال الإصلاح في الحقل الديني، وذلك إما لقصور في الرؤية من جهة وغياب وعي ديني حقيقي يقود إلى طرح مسألة التنوير الديني كمدخل أساسي للإصلاح أو بسبب وجود قراءة نمطية للدين تضع كل الخطاب الديني في منطلق وتوجه واحد.

 

فإذا كانت الوثيقة الدستورية تنص صراحة على أن الشأن الديني يبقى حصرا على مرجعية إمارة المؤمنين ومجالها المحفوظ مما يشكل حصانة للمنافسة السياسية الديمقراطية بين الأحزاب السياسية ويحميها من التوظيف المسيس والمؤدلج للدين في الصراع السياسي والتنافس الانتخابي، فإن سيطرة الإسلاموية على بنية الحقل الديني ومؤسساتها التدبيرية والتعليمية والخطابية المنبرية يجعل من أي تنافس سياسي مع الحزب الأصولي المتأسلم وباقي الأحزاب السياسية أمرا مستحيلا. ومن يتأمل اليوم مشهدية الحقل الديني بالمغرب سيدرك حقيقة هذا الكلام، فالحركة الأصولية تحكم يوما بعد آخر قبضتها على الحقل الديني وتجير مؤسساته إيديولوجيا لجهة التيار الوهابي أو الإخواني على حساب الثوابت الدينية للمغاربة وتوظفها بكل برغماتية ووقاحة في صراعها مع القوى الديمقراطية، بل حتى مع المؤسسة الملكية نفسها ومرجعية إمارة المؤمنين والنظام السياسي، والأدهى من ذلك فهي تمارس تدليسا وتحايلا خطيرا من خلال لعبة قذرة فهي من جهة الخطاب تتحدث باسم هذه الثوابت على الأقل في الفقه والعقيدة، أما التصوف فهي تعاديه وتنكره جهارا نهارا مع أنه أحد أركان وأعمدة الاسلام المغربي ومرجعيته الناظمة إمارة المؤمنين والمكون الأبرز الذي أدى إلى تألق هذا الإسلام وامتداده في افريقيا، وهو من يرجع إليه الفضل في قوة وفرادة مؤسسة إمارة المؤمنين وحيازتها لمشروعية امتدت في تأثيرها الى مجتمعات ودول في افريقيا جنوب الصحراء. ومن جهة أخرى تقوم بملء بنيات ومؤسسات الحقل الديني بمضامين عقدية وفكرية مناهضة ومعادية للإسلام المغربي ومرجعية إمارة المؤمنين حتى وصل الأمر الى ممارسة الوصاية المباشرة على امير المؤمنين وهذا ما عبر عنه مؤخرا رئيس المجلس العلمي الإقليمي لوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى السيد مصطفى بنجمزة بشكل صريح عندما اعتبر أن الوصاية على الملك في حقل إمارة المؤمنين أمر مشروع وأنه لا حرج في قول هذه الحقيقة، فبنحمزة وكل الأخطبوط الأصولي المتأسلم يعتبرون أنفسهم في مقام ديني وعلمي يؤهلهم لممارسة مهام إمارة المؤمنين من الناحية الفعلية والعملية وما على أمير المؤمنين إلا ان يخضع لوصايتهم، هكذا يقول لسان حالهم، وهكذا تكم يوما أحمد الريسولي رئيس ما يسمى بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين وخليفة القرضاوي، التابع للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين عندما صرح لصحيفة "أوجردوي لوماروك" سنة 2003 قبل يومين من أحداث الدار البيضاء الإرهابية بأن الملك ليس أهلا لإمارة المؤمنين وأن المطلوب هو انشاء مؤسسة للإفتاء الديني، قبل أن يغادر إلى السعودية للإسهام في إعداد ما يسمى "موسوعة الفقه الاسلامي" التي أدرت على "الأخ"  الريسولي حقائب من البترودولار لأنه قام في هذه الموسوعة بتطبيع الفقه السلفي الوهابي المعروف بتشدده وتزمته المفضي للإرهاب مع المذاهب الفقهية الاربعة  .

 

إن تغول الحركة الاصولية اليوم في بنيات الحقل الديني وانتقال هيمنتها بالتبعية الى الحقل السياسي يضع كثير من الاسئلة أمام الدولة والنخب والسياسية والقوى الديمقراطية، وذلك في سياقات داخلية وخارجية تنبئ بتحولات دراماتيكية في الكم والكيف.. وهنا لابد من التذكير بأهمية واستراتيجية النقاش العمومي الذي كان قد أطلقته كوكبة من المثقفين والمفكرين المغاربة كالباحث والمفكر الراحل الأستاذ الحسين الادريسي رحمه الله والدكتور يوسف حنانة ود. سفيان الحتاش وآخرين.. ومسؤولين رسميين داخل مؤسسات الحقل الديني كالدكتور محمد المرابط المدير الجهوي السابق للشؤون الاسلامية لجهة طنجة تطوان والمدير الجهوي للشؤون الإسلامية بالحسيمة السيد سوسان فكري فهؤلاء المناديب الذين كانوا يمارسوا مهماهم لتقوية الثوابت الدينية المغربية اصطدموا بصخور الحركة الأصولية الرابضة على قمم المجالس العلمية والمجلس العلمي الأعلى حيث تم محاصرتهم ودفعهم إلى الاستقالة (حالة الدكتور المرابط) أو الاقالة (حالة سوسان فكري) هذه القوى الحية دافعت باستماتة عن النموذج الديني المغربي ودعت الى انتهاج سياسة شفافة في الحقل الديني تنتصر لمرجعية إمارة المؤمنين في تدبير الشأن الديني، إلا أن التحالف المؤتلفة قلوبهم في وزارة الأوقاف مع اللوبي السلفي الوهابي وربيبه الإخواني أدى الى إجهاض كل حركة إصلاح ديني من شأنها أن تكون مدخل للإصلاح الشامل بالبلاد بالإضافة الى تواطئ القوى المحافظة الاخرى من أصحاب المصالح واللوبيات الذي لهم المنفعة في توظيف الحركة الأصولية كي تكون أداة للاستبداد والاستغلال والتخلف كلها عوامل جعلت اليوم الحركة الاصولية تتسيد المشهد السياسي والديني بدون منازع والمتأمل للمشهد السياسي للمغرب ونحن على بعد سنة ونيف على انتخابات 2021 يجعله يرى بكل وضوح أن لا حل في الافق يجعل من استعادة القوى الديمقراطية للمبادرة في إصلاح حقيقي، وهذا ما يجب أن تعيه القوى اليسار بالمغرب، وهو أن أي تغيير حقيقي في موازين القوى السياسية بالمغرب يمر بالضرورة من مدخل التنوير الديني، كما أسلفنا ضمن مرجعية ومنطلقات الإسلام المغربي وبقيادة مؤسسة إمارة المؤمنين في إطار من الثوابت الفقهية والعقدية والصوفية لهذا الإسلام.

 

إن السياق الخارجي المتمثل في ضغط الازمة الليبية يزيد من حراجة وخطر المرحلة الراهنة بالنسبة للدولة والقوى الديمقراطية، فالخطوة التي يقدم عليها اليوم النظام التركي بمباركة وتغطية الرأسمال العالمي من نقل لعشرات آلالف الإرهابيين من سوريا إلى ليبيا لدعم حكومة السراج الإخوانية يضع منطقة شمال إفريقيا والمغرب الكبير أمام تحديات أمنية خطيرة واستراتيجية يزيد من حدتها غياب الرؤية الاستراتيجية للدولة في التعامل مع انتقال هيمنة الحركة الاصولية من الحقل الديني الى المشهد السياسي في غياب بدائل حقيقية للمشروع الأصولي الذي أصبح يتغلل داخل بنية الدولة بعد استئثاره بالحكم لولايتين متتاليتين في سابقة من نوعها في التاريخ السياسي المغربي، مما حذا بقيادات حزب العدالة والتنمية الى الإعلان في اكثر من مناسبة بانهم سيضفرون بانتخابات 2021 في استشعار واضح لضعف الدولة والقوى الديمقراطية أمام سطوتهم ومشروعهم الانقلابي على مرجعية البلاد الدينية والسياسية .

 

إن الحركة الاصولية تستثمر اليوم في فائض قوتها وهيمنتها في الحقل الديني للتمدد سياسيا واجتماعيا، تمدد بحجم ان تكون هذه الحركة هي الأمر والناهي وتقسيم المجتمع الى مؤمنين وكفار كما في حديث بن كيران عن لجنة النموذج التنموي التي عينها الملك حيث نصب نفسه كهنوتا دينيا يصدر فتاوى في أعضائها في من هو مشكك في الاسلام وغير المشكك.

 

وفي وجدة يتباهى بنحمزة في أنه سوى عدة أضرحة بالأرض دون الاستناد الى فتوى أو مسطرة قانونية وهو يعتمد في ذلك منهج وهابي طالباني، فمن هي الجهة التي خولت لبنحمرة هدم الأضرحة التي هي تراث وطني  وثقافي وعمراني في بعدها الأنثروبولوجي، فهل هدمت دول أوروبية ديمقراطية وعلمانية مقابرها وآثارها الدينية وأضرحتها التي تعتني بها وتدرجها في تراثا الوطني وتتحول سنويا الى مزارات سياحية؟ من أين أتى بنحمزة بهذا المنج الطالباني الوهابي الإرهابي كي يهدم أضرحة لها قرون من الزمن؟ فهل الأمة المغربية التي انجبت قامات علمائية عالمية كانت وثنية في عقيدتها وتدينها حتى يأتي بنحمزة ذو المشرب الإخواني الوهابي ليعلمها عقيدتها؟ وفي مدينة انزكان ينظم سلفي وهابي الذي ينتمي إلى جمعية دار القران المغراوية الوهابية ندوة خصص لها عنوان "حكم مشاركة الكفار أعيادهم" في تعدي صارخ على سلطة مؤسسة إمارة المؤمنين في الافتاء الديني؟ ولكن لماذا تسمح وزارة الاوقاف بهذا العبث في الحقل الديني بما يمس فيه ثوابت التدين المغربي ولمصلة من يتم ذلك!؟

 

مهما حاولت بعض الجهات التي لها المصلحة في تبييض التأسلم الأصولي في المفردات والإطارات الفقهية والعقدية والصوفية المغربية والكذب على الملك وعلى الشعب بالتسويق لنموذج ديني مغربي مزيف لا يحمل من المغربة سوى الاسم، فإن استحقاقات الوضع الداخلي والإقليمي ستشكل اختبارا حقيقيا وفي الامتحان يعز المرء أو يهان. وكان الله في حفظ هذا البلد الأمين...