حمزة شكري : هكذا تكلم المعتزلة

حمزة شكري : هكذا تكلم المعتزلة حمزة شكري

تدرجت بنية العقل الإسلامي على مدارج عديدة، وأرست نواصيه نواجدها على جم غفير من الوقفات، وتأرجح منطقه بين الذهاب إلى تأويل ومضات الأحداث و الإدبار عنها مخافة المحيد عن تعاليم الشرع، ومنطوق التنزيل، ومع ذلك ظل الحجا الإسلامي عروبا مطواعا مشحوذا .

لم تكد شمس الخلافة الأُموية تأفل حتى بزغت من غمد عصرها فرقة قشيبة تألهت في العقل و توسلت بمغدوقه، سمت نفيرها الأول اصطلاحا بلفظ ''أهل العدل و التوحيد'' و ُرفت تاريخيا باسم ''المعتزلة'' ولعلنا بهذه الكليمة نقف عند حدود فكر هذه الفرقة الكلامية البارزة، وبنية العقل عندها، واستنطاق معالم مكتوبها ورسم منطوقها .

عُرف القرن الثاني الهجري بعصر التطبيع مع العقل خاصة بعد سبر أغوار الفلسفة والمنطق اليونانيين ـ بفضل ترجمات دار الحكمة ـ واتساع رُقعة الدولة الإسلامية من جهة، و توسُع الهامش الزمني بعيد الجيل الأول من التابعين من جهة أخرى، وفي ظل كل هذه الوشائج و المرافئ الخصبة، انفلقت تباشير هذا الاتجاه الفكري، و يُعزى سبب التأسيس ـ تاريخيا ـ للواقعة الشهيرة التي دار رحى أحداثها في حلقة من حلقات ''الحسن البصري" (21هـ-110هـ)، حينما سُئل مُفتيا في مرتكب الكبيرة، في حلقة من حلقاته بمسجد البصرة فأطرق في الإجابة قليلا، قبل أن يجيب إجابة لم ترق "واصل بن عطاء'' (79هـ-128هـ)، و الذي عقب مختلفا مع شيخه بأن مقترف الكبيرة لا هو مؤمن بحد قاطع، ولا بكافر بتعريف مانع، بل هو في منزلة بين المنزلتين، واعتزل ''واصل'' بعدها مجلس البصري و أسس حلقة خاصة بجوار شيخه الذي اكتفى بقوله محوقلا: "اعتزلنا واصل" وهذا مرد التسمية في جل المرويات التاريخية .

رام ''واصل" باختلافه مع شيخه ''البصري" التعبير عن موقفه من مسألة أصولية محضة، إلا أن الحادثة شكلت رجة حقيقية في تلك الحقبة، وكانت نقطة مفصلية في نشأة فكر عقلاني يقارب المسائل الدينية بنظارة عقلية صرفة متجاوزين بذلك قيود المنقول، وأغلال المتواتر، ويمكن القول من باب التحقيب التاريخي أن هذه اللحظة بالذات، شهدت ميلاد أول تيار عقلاني إسلامي، بدأ معه جموع الأسئلة يتجاوز القالب الديني المعهود، فتناسلت التفاسير و طُوع المنطق، وطرحت مجموعة من المسلمات للنقاش، واحتدم الصراع بين طرفٍ سلفيٍ متشبث بالوضع السالف، معتمدًا على النقل في رتقِ جُبة الصورة الإسلامية النمطية، وتيارٍ آخر عقلاني جذاب، رمل إلى التنصيص على مذهبه الفكري بقواعد صائغة لاتجاهه، حافظة له من الابتذال، وهي دار التوحيد وبابها إثباتٌ قاطع لوحدانية الله، مرورا بالعدل على حد القول بقيام أحكام العزيز بما يقتضيه العقل، وترضاه الحكمة، إضافة إلى مسألة الخلاف الأولى أي أن مرتكب الكبيرة في منزلة وسطى بين المنزلتين، نهاية بالوعد و الوعيد، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، وتعتبر هذه القواعد الخمس دستور المعتزلة، وورقتهم المذهبية، وما زاد شوكتهم قوة، و جمعهم حدة، وقوفهم عند مجموعة من الأطاريح الشفهية التي كانت محور اهتمام أصحاب التأمل و التفكر في ذلك العصر، كمسألة الحرية و الإرادة الإنسانية، في مقابل سكون رهيب للجماعة إزاء هذه الأطاريح، مما زاد من شعبية المعتزلة خاصة في صفوف النخبة الفكرية .

لا يكاد ينكر دارسٌ أو متأملٌ لوشائج التاريخ دور المناخ السياسي في إعلاء راية المعتزلة، خاصة بصعود الدولة العباسية للحكم، ونشير هنا للدور الذي لعبه علم الكلام في المشهد السياسي و السجال حول الحكم، ولعل هذا ما خدم اتجاه المعتزلة بحكم اضطلاع منتسبيه بأغلب ميادين الثقافة في ذلك العصر، من لغة و فلسفة وفقه و أدب، ولاغرو أن نجد جما غفيرا من علماء تراثنا الإسلامي من منتسبي هذه الفرقة الكلامية ''كالجاحظ'' (163هـ-255هـ)، و''القاضي عبد الجبار'' (359هـ -415هـ)، وصاحب ''الكشاف'' ''الزمخشري'' (467هـ-538هـ)، إلا أننا في هذا الموقف لن نقف عند الجانب السياسي، وقد نفرد له وقفة تليق بمقامه مستقبلا بحول الله، لكن سنقف عند بعد الومضات و القضايا المشهورة في الفكر المعتزلي و تاريخ علم الكلام بصفة عامة .

أ: محنة خلق القرآن

يجنح ''القاضي عبد الجبار'' في شرحه مبررات القول بخلق القرآن إلى القول: ''إن القرآن كلام الله ووحيه، وهو مخلوق محدث، انزله الله على نبيه ليكون علما ودالا على نبوته، وجعله دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام، واستوجب منا بذلك الحمد والشكر والتحميد والتقديس..القرآن يتقدم بعضه على بعض، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديما، إذ القديم هو ما لا يتقدمه غيره… وآخر، ونصف وربع، وسدس وسبع، وما يكون بهذا الوصف، كيف يجوز أن يكون قديما؟'' ، وتفسير ذلك أن المعتزلة وقفوا عند القول بأن القرآن مخلوق بل أنهم ذهبوا إلي نفي صفة الإعجاز عنه، و أقاموا له حدا واصفا باعتباره نصا دينيا يقبل القراءة الدينية الحمالة لأوجه عديدة، خاصة العقلية منها، بل أنهم استمروا بالقول برفض كل ما لا يقبله العقل، مهما أُغدقت عليه من الصفات المقدسة، ومن هذا المنطلق تشكل لب نظريتهم وكنهها التي دافعوا عنها بتأويل النص الديني تارة، ولي عنقه ليستجيب ـ طوعا ـ لاتجاههم العقلي، أو بتكفير من يعارضهم ويخالفهم الرأي تارة أخرى .

يعتبر الإمام ''أحمد بن حنبل'' (164هـ-241هـ) أشهر علماء السنة الذين ارتبط اسمهم بما عرف ب ''محنة خلق القرآن'' حيث فرض عليه أن يعيش في ظل وطأة حكم المعتزلة الذين وصلوا للحكم من خلال عصر ''عبد الله المأمون" سابع خلفاء بني العباس وقد كان معتزلي المذهب قائلا بخلق القرآن، عاملا بالقواعد الخمس .

انبرى ''بن حنبل'' للدفاع عن وجهة نظر المجتمع السائدة و المتأصلة من خلال رأي السلف من أهل السنة و الجماعة، خاصة بعد الحادثة الشهيرة عندما كتب الخليفة المأمون إلى قاضي البصرة يأمره بألا يثق في قضاء قاضي أو شهادة شاهد إلا بعد الإقرار بأن القرآن مخلوق، و إفحام ''المأمون'' للمحدثين السبع على رأسهم ''الواقدي'' بعد أن امتحنهم ليقروا جميعا ـ انصياعا ـ بخلق القرآن .

واجه الإمام ''أحمد بن حنبل'' المعتزلة في صورة الدولة الحاكمة، و أصر على قوله رغم ما تعرض له من جلد و تعذيب في فترة ''المأمون'' و ''المعتصم''أيضا، ولعل هذا السياق ما يفرض نظرية توظيف المعتزلة من طرف الحاكم العباسي لأغراض سياسية، إذ يصعب في ضوء هذه الأحداث القول باستقلالية المعتزلة، و اقتناعهم الاختياري الدخول في معارك كلامية مع كبار المحدثين، و على رأسهم ''أحمد بن حنبل'' والتسبب فيما أصابه من تنكيل وتعذيب في مخالفة صارخة لمبدئهم العقلي والمنطقي .

ب : نفي رؤية الله في الدنيا و الآخرة

نفى المعتزلة نفيا قاطعا رؤية الحق في الدنيا و الآخرة وقالوا: باستحالة ذلك عقلا؛ لأنهم يقولون إن البصر لا يدرك إلا الألوان والأشكال، أي ما هو مادي والله تعالى ذات غير مادية، فمن المستحيل إذن أن يقع عليه البصر، وآيتهم في ذلك قول الجبار:''لا تدركه الأبصار"، وفسروا في ذلك تفسيرا، و أفردوا له أبوابا، وسنقف هنا عند ''الزمخشري'' صاحب كتاب الكشاف، و الذي أعطى للفظ '' لن '' وظيفية تأبيدية عندما استرسل في شرح الآية الكريم التي حادث الرحمان فيها كليمه ''موسى'' عليه السلام: ' ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمن ''، وقف "الزمخشري'' عند لفظ "لن" ليؤكد رأي المعتزلة باستحالة رؤية الحق في الدنيا والآخرة معتبرا إياها – لن- لفظا دالا على التأكيد والتأييد واشتهرت هذه اللفظة بالذات ب '' لن" الزمخشرية نسبة إلى المفسر ''الزمخشري''، وهنا نسجل كيف ثم توظيف المنحى التفسيري للنص الديني في خدمة القضية الفكرية الكلامية، وهذا المنحى متأصل في التاريخ الإسلامي، مطبوع فيه، بل صار مسترسلا كتابة الطرائف عنه و المستملحات، من ذلك قول أحدهم ساخرا من الفتاوى الدينية الحديثة ووقوعها تحث رقابة التأثيرات السياسية، أن أحد الحكام العرب سأل مفتي الأمة عن مسألة هل هي حلال أم حرام؟ فأجابه المفتي المفوه: وكيف تريدها يا مولاي.

تعاقبت الأزمنة، وتوحدت الأمكنة، وتناسل الكلام، وظل فكر المعتزلة يتوسط المشهد الثقافي التاريخي العربي، وتقلبه أباخيس المنقبين عن فصوص الحكمة، و تراتيل الفكر، ومع ذلك نطرح الأسئلة على مقاص مفصل :

هل شكل الفكر المعتزلي حلقة أساس في بناء العقل الإسلامي الحديث؟ وكيف انهزم هذا التيار العقلاني الجذاب أمام سطوة السلفية المتشبعة بأصول النقل؟ ألم يكن للسياسة دور في تحريك خيوط المشهد الثقافي الصاخب في القرون الهجرية البكر، ورفع عباب المعتزلة في وجه عواصف الاحتجاجات السياسية لتحويل الأنظار عن الواقع السياسي؟