أبو أيمن الفارح: الطبقة السياسية تخلف الموعد

أبو أيمن الفارح: الطبقة السياسية تخلف الموعد أبو أيمن الفارح
عندما تتحول السياسة من فضاء للتنافس بين الأفكار والبرامج السياسية والمشاريع المجتمعية إلى حلبة للصراع، بتحالفات هجينة، من أجل احتكار الثروة والسلطة، يفقد السياسيون ثقة الشعوب في نواياهم وفي قدرتهم على تحقيق السلام والسلم الاجتماعي ببناء علاقات إنسانية متقدمة داخلية وخارجية، تحترم فيها الخصوصيات والتعدد الفكري والعقائدي وكل أشكال الاختلاف و بتوزيع عادل للثروة.
إن التداخل بين الاقتصادي والسياسي شكل حلفا مقدسا في مواجهة الشعوب ومطالبها المشروعة، تجاوز الحاجة إلى تقسيم مناطق النفوذ وتوزيع المهام ، كما في الصراعات القديمة من أجل السلطة أوالثروة أو هما معا، أصبح الجميع واعيا بأن عصب السلطة والقوة هو الثروة ومن تم ضرورة الجمع بينهم من أجل تحقيق مشروع سياسي مجتمعي يمكن الاطمئنان إليه لأطول فترة ممكنة والعمل في ذات الوقت على تهيء نموذج آخر يضمن استمرارية النظام القائم أو يكون رديفا يستنفر في أول تهديد.
سيطرة تمتد إلى كل مناحي الحياة ومستوياتها وتحتكرها فتتحول إلى عائق في وجه التطور والتقدم، حين يتم تغييب الحريات وكل أشكال التعبير الحر والإبداع ، التي تصبح في نظر الماسكين بزمام الأمور ، الحلف الحاكم ، خروجا عن النظام العام وتهديدا لسلم اجتماعي وهمي، زائف وخادع ، فالحراكات الاجتماعية والعصيان الذي تعيشه المجتمعات اليوم، تعبير صارخ عن هذا الوضع.
لم يعد ينحصر في أشكال التعبير عن التذمر والرفض بل تحول إلى ثورات حقيقية ضد بعض الأنظمة المغالية، المتعالية وإلى شكل جديد من المقاومة للأنظمة الليبرالية المتوحشة والأنظمة التي لا تستحضر العدالة الاجتماعية وحقوق المواطنة والإنسان في برامجها وتوجهاتها.
لقد انتهت فترة الحرب الباردة الأولى بسقوط جدار برلين ولم تعد دول أوروبا الشرقية وحلف وارسو ودول العالم الثالث ذات التوجه الإشتراكي بمثابة الشماعة التي تعلق عليها إخفاقات الإنسانية في مجالات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ، لقد أصبح واضحا بأن الصراع يدور حول الثروة والسلطة معا.
تلعب أمريكا والصين وروسيا دورا فاصلا في تعرية هذا الواقع وتأكيده وتكريسه، من خلال صراعها الشرس من أجل إخضاع بعضها لبعضها وكذلك بقية العالم . أمريكا بشكل مباشر منذ سقوط جدار برلين وبإصرار مع حرب الخليج الأولى وكيفية استدراجها العراق لحرب غير متكافئة ، واضحة الأهداف ، فرصة تمكنت من خلالها من بسط سيطرتها على ثروات دول الخلبج والشرق الاوسط وتهيأت الظروف جيدا لترامب، الرئيس المقاول والتاجر، الذي لا يخفي نظرته لمستقبل أمريكا والعالم ويجعل من المال عقيدته الأسمى . كل شيء بمقابل المال، لا صداقة ، لا تحالف ولا سلام .
كان الرئيس الأمريكي واقعيا ومنسجما مع قناعاته حينما يعلن بأن أمريكا لم يعد بوسعها التكفل بحماية الأنظمة السياسية ، والمنظمات الدولية والإنفاق على هذا من مجهود وثروة الشعب الأمريكا.
أمريكا أولا، على كل الأطراف أن تتحمل تبعات سياساتها وتكاليفها المالية والبشرية.
هذا التوجه وهذه السياسة الأمريكية الجديدة أملتها ، إضافة إلى الإكراهات الاقتصادية الداخلية، عوامل أخرى خارجية ، تشكل الصين الشيوعية العظمى وروسيا الوطنية مصدر إلهامها.
لزمت الصين الشعبية الحياد الإيجابي في علاقاتها وكل سياساتها وتجنبت كل تدخل مباشر قد يورطها ويكلفها نفقات مالية يصعب عليها تحملها والحفاظ في نفس الوقت على نسبة النمو الأعلى في العالم .
لقد بنت قواعد نمو اقتصادها وطورته في صمت وبصبر في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تستعرض عضلاتها وقوتها العسكرية في الخليج وفي بعض دول أوروبا الشرقية ، التي لن تغير أبدا ميزان القوى دوليا وإقليميا ، لأسباب إثنية وتاريخية وجغرافية ، كانت الصين تغزو أوروبا ، اقتصاديا وماليا وتفتح قنوات وشوارع في السوق الإفريقية وهددت الصناعة الأمريكية في عقر دارها .
في نفس الوقت ، كذلك ، كانت روسيا تكظم غيضها من الانتشاء الأمريكي بسقوط جدار برلين وانفراط عقد حلف وارسو وتعمل على استجماع ما تبقى من قوتها وتستنهض همم الوطنيين الروس وسلمت مقاليد أمورها لرجل - فلاديمير بوتين - أبان عن حنكة ودهاء مبهرين في تخلصه من الضغوط الأمريكية القوية ، اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وعمل بإمكانياته وقدراته الذاتية وبتشجيع من الأخ العدو "الصين" على بناء اقتصاد روسي سليم ومنافس وتمكن من التخلص من أسلحته القديمة المكلفة لفائدة دول صديقة وأسس لصناعة حربية متطورة جدا من الجيل الجديد ، أصبحت محط اهتمام دول كثيرة بما فيها دول أعضاء في حلف ناتو .
دول أوروبا الغربية تستشعر ضرورة خلق بدائل جديدة للتحالفات العسكرية القائمة ، ناتو على وجه التحديد، بسبب العجرفة الأمريكية والضغوط الممارسة على الحلفاء ، حد الابتزاز وكذلك المبادرات الفردية التي تعرض مصالحهم الاقتصادية والحيوية للخطر وتعصف بها في كثير من الأحيان .هذا النهج الأمريكي دفع بالدول الأوروبية ، فرنسا وألمانيا على وجه الخصوص إضافة لتركيا ، إلى ربط جسور تعاون عسكري مع روسيا واقتصادي ومالي مع الصين في محاولة لخلق بعض التوازن وكبح الجموح الأمريكي .
في هذا الإطار يمكن إدراج إنشاء فرنسا مؤخرا، بتوافق مع عدة دول ، لقاعدة بحرية عسكرية متقدمة للإشراف على أمن الملاحة البحرية في مضيق هرمز و منطقة الخليج. هذا العمل المؤشر عليه من قبل أمريكا يراه البعض ، نوعا من شغل مناولة من هذه الأخيرة لفائدة فرنسا التي لم تعد تخفي تبرمها وتدمرها من الإقصاء الممنهج لها ولباقي أوروبا من كل الصفقات السياسية والعسكرية والاقتصادية المبرمة في الشرق الأوسط و مناطق التوتر الأخرى وإن لا زالت فرنسا تحافظ على بعض الامتياز في القارة الإفريقية ، امتياز لم يعد موضع ترحيب من قبل الدول الإفريقية التي يحقق بعضها مستويات نمو تبعث على التفاؤل بمستقبل القارة . و تجدر الإشارة إلى أن ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط والخليج لا دخل لإرادة ورغبة دول المنطقة فيه ، كما تذهب إلى ذلك بعض التحليلات .
لا بد من الإشارة والإشادة بالموقف المغربي المتزن من الأحداث والتحولات العالمية الجارية، بدءا من تعبير الملك محمد السادس عما يعتبره مؤامرة لتقسيم وتجزئة العالم العربي، وكذلك مراجعته لموقفه من الحرب في اليمن والتحالف العربي والنزاع الإماراتي السعودي وإلى جانبه مصر ضد قطر . كما تجدر الإشارة كذلك إلى أن المغرب خضع لضغوطات قوية فرنسية وأمريكية من اجل إقامة قواعد عسكرية لمراقبة الأمن بمنطقة شمال إفريقيا وغرب شمال إفريقيا ودول الساحل، وهو التحول الذي حول وجهة فرنسا إلى مالي وأمريكا إلى جيبوتي، حيث مقر قيادة أفريكوم .
أبان المغرب عن نضج سياسي وعسكري متقدم وبعد نظر واستشراف للمستقبل يتناسب مع حجم قوته وقدراته العسكرية واستعداده للمساهمة في الأمن والسلم الإقليمي والقاري والدولي.
التطورات والتغيرات التي يعرفها العالم لا يمكن أن تحدث بدون تأثير ومخلفات على المجتمعات، هذه الأخيرة وجدت نفسها في حالة تيه وخوف من المستقبل، أفرز ردود أفعال تتفاوت حسب جرعات الحرية والمبادرة التي توفرها الطبقات السياسية الحاكمة الجاثمة على صدورها، وكذلك بحسب استعداد بعض نخبها السياسية المهمشة والمجتمع المدني للانخراط في حراكات وثورات اجتماعية وإحداث التغيير المنشود القادر على مواكبة التحولات والتطورات المتسارعة التي يعرفها العالم والنظام العالمي الجديد الذي يتشكل.