رانية قشى:الإعلام الإلكتروني بالمغرب بين حرية التعبير والتأثير على البنية القيمية للمجتمع

رانية قشى:الإعلام الإلكتروني بالمغرب بين حرية التعبير والتأثير على البنية القيمية للمجتمع رانية قشى
تعرف حرية التعبير إجرائيا على أنها الحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أوالكتابة أوالعمل الفني بدون رقابة أوقيود حكومية، شريطة عدم تعارضها شكلا أو مضمونا مع قوانين وأعراف الدولة أو المجموعة التي سمح تبحرية التعبير.
وتشكل حرية التعبير ركنا أساسيا في منظومة حقوق الإنسان،باعتبارها أحد أهم الحقوق المدنية والسياسية، خاصة وأن الإخلال بهذا الحق يترتب عنه هدر باقي الحقوق الأخرى.
ولهذا، فقد حظي الحق في حرية التعبير باهتمام عالمي واسع، تمخض عنه تضمين حرية التعبير في العديد من المعاهدات الدولية والإقليمية المتعلقة بحقوق الإنسان،وكذا التنصيص عليها في أغلب دساتير الدول الديمقراطية.
وعلى غرار ذلك، فقد كفل الدستور المغربي لسنة 2011 حق التعبير في شموليته،عبر الإقرار بصريح الفصل 25على "أن حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها"، وهو نفس ما ذهبت إليه كذلك مقتضيات الفصل 28التي أكدت على أن حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية، وأن للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء بكل حرية، ومن غير قيد عدا ما ينص عليه القانون صراحة.فضلا على أن السلطات العمومية تبقى هي المسؤولة على تنظيم قطاع الصحافة بكيفية مستقلة ووفق أسس ديمقراطية، وكذا وضع القواعد القانونية والأخلاقية المتعلقة به.علاوة على أن القانون يظل هو المحدد لقواعد تنظيم وسائل الإعلام العمومية ومراقبتها، والضامن لكيفية الاستفادة من هذه الوسائل، في احترام تام للتعددية اللغوية والثقافية والسياسية للمجتمع.
وإلى جانب هذا، فالفصل 165 من الدستور أوكل للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، مهمة السهر على احترام التعبير التعددي لتيارات الرأي والفكر، والحق في المعلومة في الميدان السمعي البصري، وكل ذلك طبعا في إطار الاحترام التأمل لقيم الحضارية المجتمعية وقوانين المملكة.
ويبقى الغرض من هذا الجرد الآنف الذكر، للإطار الدستوري الناظم لحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة بالمغرب،هو استحضار المحددات القانونية والحقوقية التي سمحت للمواقع الإلكترونية أن تكتسح مجالا واسعا من دائرة الإعلام الوطني، لا سيما مواقع التواصل الاجتماعي، التي أضحت ذات أهمية كبيرة،خاصة وأنها تشكل أكثر الوسائط الإعلامية تداولا بالمغرب،إن من حيث التواصل والتفاعل، أو من حيث تلقي ونقلا لمعلومات والأخبار.
إلى درجة صارت فيها هذه الوسائط متجاوزة الوسائل الإعلامية التقليدية، التي بقيت منصاعة كليا للتوجه الرسمي، في مقابل الصفحات والمواقع الإعلامية الاجتماعية الجديدة التي انفتحت على ما هو غير رسمي، وأضحت ساحة خصبة لتغطية مختلف الأشكال الاحتجاجية الفردية والجماعية، وفي مقدمتها ما عرف "بحملة المقاطعة"، كما أنها ظلت كذلك أرضية دينامية للنقاشات المثيرة للجدل حول مجموعة من القضايا المتعلقة بالفساد والاستبداد، التي يصعب التعامل معها من طرف المنابر الإعلامية التقليدية.
فضلا على أن هذه الصفحات الإلكترونية أصبحت المتنفس الوحيد لفئات عريضة من المجتمع المغربي فيما يخص التعبير عن قضاياهم واحتياجاتهم الاجتماعية، وذلك من خلال مطالبتهم عبرها بتوفير مساعدات مالية أو طبية، أو من خلال مطالبتهم باسترجاع مكتسبات سلبت منهم،والدفاع عن حقوقهم المنتهكة سواء من قبل الأفراد العاديين أو من طرف المسؤولين على المرافق العمومية.
غير أن كل هذا الزخم الايجابي الذي تزخر به هذه الوسائط الإعلامية فيما يخص قدرتها على تمكين المواطنين من الترافع عن القضايا الاجتماعية التي تهم الأفراد والمجتمع عموما،لا يجب أن يحجب الرؤية عن السلبيات والمخاطر التي تثويها هذه الوسائط، خاصة فيما يتعلق بالاستخدام السيء لهذه الوسائط.
وفي خضم تبيان تجليات هذا الاستخدم السلبي لهذه الوسائل،نجد بأن العديد من هذه الصفحات الإلكترونية أصبحتتختص في التشهير بالأشخاص، والتطرق لمواضيع فارغة منها ما يدخل ضمن الطبوهات، ومنها ما يمس بمبادئ وقيمالمجتمع المغربي، وذلك إما من خلال عقد لقاءات واستجوابات حول مواضيع تافهة ظاهريا وعمقا، من قبيل نيبا، إكشوان إكنوان، طراكس...إلخ، أو عبرالتشهير بالأشخاص المثليين، وكذا التفصيل في قضايا القتل والاغتصاب، فضلا على الاهتمام المكثف بالمواضيع اللأخلاقية.
وكما هو معلوم، فخطورة هذا الأمر تتعدى كثرت هذه الصفحات الإلكترونية وما تقدمه من تفاهة،إلى كونها وعاء يحمل أفكار وقيم لا تناسب المتلقي الناشئ على مختلف المستويات، ويتلقاها الأطفال المغاربة بسلسة، سيما وأن الأجهزة الإلكترونية أصبحت في أيدي الصغير والكبير، وهو ما يجعل هذه الصفحات الإعلامية ذات تأثير قوي على الرأي العام، إلى درجة أضحى معها المجتمع المغربي يتقبل الظواهر المنافية للأخلاق العامة التي يتم تداولها على مستوى هذه الوسائط الإعلامية الجديدة.
وما يزيد من الطين بلة، هو أن هذه المواقع في مجملها لا تخضع لضوابط معيارية تؤطر وتتحكم فيما ينشر عبرها، ولا توجد وسائل أو طرق محددة يمكن أن تقي المستخدم من السلبيات التي قد تصل إليه مباشرة. وما يعمق من حدة هذا الإشكال أكثر، هو انتشار برامج التواصل الاجتماعي بشكل فظيع يصعب معه ضبطها، الأمر الذي أثر على حياة الناس عموما، سواء بشكل سلبي أو إيجابي.
وقد غلب التأثير السلبي على الإيجابي طبعا، خاصة وأن هناك غياب تام للتوعية بالجانب السلبي لاستخدام وسائل الاتصال السمعي البصري الجديدة، وكذا عدم وجود ثقافة دافعة باتجاه نشر الوعي بضرورة الاستفادة من هذه الوسائط بشكل ايجابي، حتى يكون المتلقي ذا مناعة قوية أمام كل ما من شأنه أن يطبع هويته بما هو سلبي، ويمس بقيم مجتمعه الذي ينتمي إليه.
وعليه، فقد أصبحت وسائل الإعلام الجديدة المتفاعلة على مستوى الفضاء الرقمي منفذا لقيم منافية تماما مع قيم وعادات وتقاليد المجتمع المغربي، الذي عرف منذ القدم بتسامحه وتقبله للآخر المختلف ثقافة وعقيدة.كما أن الانتشار السريع لهذه المواقع الالكترونية والصفحات المختلفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وعلى نطاق واسع، سهل وساهم بشكل أو بآخر في انتشار ثقافة العنف بمختلف أشكاله داخل البنية المجتمعية، ولربما أن الجريمة الشنعاء المعروفة بجريمة "شمهروش" وما رافقها من إشادة بعض الأشخاص بهذا الفعل الاجرام يعبر مواقع التواصل الاجتماعي، لخير دليل على مدى التأثير السلبي للفضاء الرقمي على قيم المجتمع، بما يهد الأمن والاستقرار الاجتماعي ببلادنا، وكذا الاقتصاد الوطني الذي تبقى السياحة أحد أهم ركائزه.
تأسيسا على ما سبق، يمكن القول بأن وسائل الإعلام الافتراضية عوض أن تكون آليات للنهوض بالتربية والتوعية والتثقيف والتواصل مع الثقافات العالمية، أضحت منفذا للمساس بقيم المجتمع، والمس بالأخلاق العامة. وقد يقول قائل بأنها منفذ حقيقي للانفتاح والحداثة، وهذا قول يحمل الكثير من الصواب في جانب منه، غير أن هذا القول مردود عليه، لأن ما تقدمه هذه الوسائط الإعلامية تعدى مستوى الانفتاح إلى الانحلال الأخلاقي والقيمي.
وختاما أتساءل: أليست هناك رقابة حقيقية على مستوى مواقع الإعلام الإلكتروني الجديدة؟ وأليس هناك دور للهيئة العليا للاتصال السمعي البصري في مراقبة هذه الصفحات الإلكترونية؟ أم أن الأمر يتعلق بالسير في منحى دعم هذا التوجه وتكريسه كورقة لإلهاء الشعب بالقضايا الفارغة، بدل اهتمامه بالقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المصيرية للمجتمع؟
رانية قشى،باحثة في القانون الدستوري والعلوم السياسية