من يرى اليوم "يسرا طارق" وهي تجلس وراء الكاميرا بشاشة القناة الأمازيغية، مُبتسمة.. مُنطلقة، تتحرك بنشاط وجد وتنقل "عدوى" العمل الإعلامي الجاد والمهني في محيطها، يظن أنها ولدت وفي يدها "ميكروفون من ذهب"، بل يُخيَّلُ إليه في زمن "باك صاحبي" أن إتقانها للغة الأمازيغية (الريفية) واعتناءها بقاموسها، هي فقط جواز العبور لإقناع الواقفين أمام الباب الافتراضي لإدارة القناة، لمراقبة التأشيرات و"البادجات"، لكن من يكتشف مسارها في الحياة و- الذي تعرضت له حلقة من حلقات "برنامج تيمزورا" بالقناة الأمازيغية في رمضان الماضي -، يجد أنها فنانة وإعلامية بتكوين أكاديمي. واجهت صعوبات في مرحلة عمرية متقدمة وعاشت تجربة غنية في القناة الثامنة، قبل أن تعود إليها مؤخرا، حيث كانت تشرف على تقديم برنامج "نتات" أي "هيَّ" باللغة العربية، إذ جابت العديد من المناطق في الريف بداية من سنة 2010، لكي تقنع المرأة الريفية، بالتعبير عن همومها وانتظاراتها أمام الكاميرا، رغم الرقابة الذكورية، التي كانت ولا تزال خطا أحمر، قد يكلف المرأة ومعها المُحاور (ة) لها، حياتهما أو سلامة جسدهما. بعد هذه التجربة الغنية، التي تعتبرها "سرا طارق" مغامرة جميلة ومنعطفا مهما وحاسما في مسارها الإعلامي، عادت لأضواء الكاميرا في القناة الأمازيغية كما شاركت في عدة أفلام سينمائية ذات البعد التاريخي، مع نجوم لامعين من داخل وخارج الوطن.
شكلت "يسرا طارق" ثنائيا سينمائيا مع زوجها المخرج "محمد اليونسي"، في أفلام سينمائية ناجحة من بينها : "الوشاح الأحمر" الذي شارك في بطولته المرحوم "محمد البسطاوي" وفيلم سينمائي آخر "دقات القدر" صدر في متم سنة 2018 ومن أبطاله الفنانين محمد الشوبي وعبد الله شاكيري، وقامت فيه "يسرا" بدور مؤثر في أحداث القصة، التي تتعرض للفترة التاريخية التي قصفت فيها جنود الاحتلال الإسباني الريف بالقنابل الكيماوية، وكانت قد أقدمت على حلق شعر رأسها كاملا، لتنسجم بصدق مع هذا الدور، (ضحية لمخلفات القصف الكيماوي)، لكن عاشت مضايقات الناس في الشارع العام، بسبب هذا الأمر، فقد نـُعتت "يسرا" بنعوت قاسية وصُنفت في خانة المتمردات على الأعراف والتقاليد المحلية، وليس ذلك بالأمر الغريب على مجتمع لا يفرق معظمه بين الشخصية الطبيعية والوظيفية، إذ سقطت "يسرا" ضحية لخاصية "التناص" بشكل سلبي، وهي على يقين أن هذه الظاهرة الاجتماعية النفسية رغم كونها حكما جائرا، قد تصدر من أشخاص بعينهم بشكل عفوي، وتتطلب حينا من الدهر، لتفكيكها وإعادة تركيبها بشكل سوي في الذاكرة الجماعية لأي مجتمع. وقد سبق اشتغالها في السينما مع زوجها، مشاركتها في أول فيلم سينمائي ناطق باللغة الريفية، يحصل على دعم المركز السينمائي المغربي، وهو فيلم تاريخي عنوانه "ميغيس" للمخرج "جمال بلمجدوب"، كما شاركت في فيلم سينمائي آخر عنوانه "وداعا كارمن" للمخرج "محمد أمين بنعمراوي".
من بلدة "أزغنغان" وردة مدينة الناظور، حيث صدى الجبال يردِّدُ لحن "ثاقرعشت"، بلسان أمازيغي يوصف بـ "تريفيت" ويعكس التنوع الثقافي بالمغرب حتى على مستوى الثقافة الأمازيغية. من الريف، وفي هذه البلدة (أزغنغان)، التي تعد الصورة الأخرى للمنطقة، حيث تتفتق المساكن بين الجبال وتأبى إلا أن تضل بشكلها منذ سنين، لكن تنفلت هذه البلدة مع ضواحي أخرى وسط سلوان وأيت سيدال ودار الكبداني، لتشكل استثناء جميلا، مقاوما للرتابة والنمطية، مقاوما لضربة المقص الذي يقصُّ أسفل طرف جناح "العصفورة"، كي لا تطير كما يطيرُ "العصفور". تقف هذه البلدة، معاندة علو الجبال، كمركز حضري، يعج بالحركة، يذيب الثلوج، ليُطلق العنان لسيول من النشاط الثقافي والحركة و الانطلاق نحو أفق أرحب وأعلى، لا يضاهيه سوى أحلام فتاة صغيرة، اختارت أن تكبر في عوالم الفنون و الإعلام .. من "أزغنغان".. البستان أو الحديقة الجميلة - كما يحلو للبعض نعتها -، بحكم أن بها حديقة مشابهة لحدائق الأندلس.. من هناك رأت الطفلة "يسرا طارق" النور، وفتحت عينها على مجتمع يعج بالأعراف المكبلة لحرية المرأة، وليس فقط هناك.. بل في مناطق أخرى بعيدة وقريبة من "أزغنغان".
نشأت يسرا طارق، في عائلة تمردت على الأعراف، التي لا ترى في الأنثى سوى "آلة أدمية" داخل المنزل للطبخ والكنس وإنجاب الأطفال ... وكانت أمها نقطة ضوء في حياتها، نحو إنارة أفق للتعبير عن الذات والالتحاق بفصول الدراسة وبـ "دار الشباب أزغنغان"، للاختلاط بالذكور وممارسة الرقصات التعبيرية والمسرح، ولم يجد والدها حلا لعتاب الناس وإحراجهم له، بكون ابنته تطير مغردة بعيدا عن جدران المنزل، سوى من خلال ثقته في تربية أمها لها ومواكبة أنشطتها وثقته أيضا في فلذة كبده، خصوصا حين بدأت تعتمد على نفسها في إكمال مسارها الدراسي والانفتاح على مناطق خارج "أزغنغان"، إذ أنهت دراستها الابتدائية والإعدادية والثانوية٬ وبعد نيلها لشهادة البكالوريا التحقت بجامعة محمد الأول بمدينة وجدة، لتتابع بعد ذلك دراستها بالمعهد العالي التقني، ضمن شعبته الخاصة بمجال السمعي البصري بمدينة الرباط، إلى أن التحقت بالمدرسة العليا للصحافة والإعلام بالدار البيضاء. وكان حب أبيها ومساندته لها، زادها للانطلاق للتألق في مجالين صعبي المنال على الإناث (الفن والإعلام)، وهو اليوم فخور بها ويردد على طريقة الريفيين : " يُسْرَانو".. فهاهي تلك الفتاة الصغيرة قد كبرت، وأصبحت تطل على أبيها من الشاشتين الصغيرة والكبيرة ويرفع لها يده للتحية.. متباهيا بها، ليس بسذاجة البعيدين عن عالم التكنولوجيا الحديثة، لكن بصفاء روح الإنسان الريفي الذي يحس بأحلام ابنته ونشوة تألقها واعتزازها، بتكوين شخصيتها والاعتماد على نفسها لتحقيق أحلامها المشروعة، التي انطلقت منذ بداية تعلقها بالإبداع الفني والجمالي بين جدران "دار الشباب أزغنغان"، التي تشبعت فيها بعشق الفنون وحب الوطن والدفاع عن الثقافة الأمازيغية والاهتمام بقضايا المجتمع المغربي، خصوصا قضية المرأة القروية وهو ما انعكس على اشتغالها الإعلامي وحضورها في الساحة الفنية والثقافية ..
اليوم ليس كالأمس إذ أضحت بناية "دار الشباب أزغنغان" متصدعة الجدران. تتساقط أجزاء من صباغتها بشكل محزن وقاتم يزيد من سواده، فراغها وأفول شمس العطاء الثقافي في فترة الثمانينيات والتسعينات من القرن الماضي وبداية الألفية الثالثة، رغم كونها (دار الشباب أزغنغان) ذاكرة للعديد من الأنشطة الفنية والثقافية، التي حملت مشعلها العديد من الأسماء الجمعوية بالمنطقة .. وليست "يسرا طارق" سوى اسما من هذه الأسماء القليلة جدا، التي جمعت بين الإعلام والسينما وشكلت استثناء جميلا لنون النسوة، في العديد من المناطق، التي لازالت فيها المرأة حبيسة الجدران والتقاليد البالية.