ارتفع منسوب النقاش خلال السنوات الأخيرة حول"الحريات الفردية"، وازداد الموضوع حماسة وسخونة على خلفية قضية إيقاف الصحفية "هاجر الريسوني" ومن معها، والمجازفة في النبـش في حفريات موضوع، يتقاطع فيه الديني بالسياسي، والقانوني بالحزبي، ليــس معناه أننا نريد أن ننغمس في نقاش جدلي بشأن موضوع، يبدو كالجواد الذي يصعب ترويضه والتحكم في حركاته وسكناته، وليس القصد منه، أن نعلن أمام الملأ، موقفنا حول "حريات فردية" يحاصرها الجدل، كما حاصرت السيول الجارفة "ملعب الموت" قبل أسابيع ، أو الارتماء الحماسي في هذا الخندق دون الآخر.
بالقدر ما لا يمكن تجاهل النقاشات المتعددة المستويات التي حاولت زحزحة قارات "الحريات الفردية"، بشكل يذيب جليد الخلاف، ويحقق نوعا من التوافق والتراضي حول موضوع مجتمعي يتواجد بين مطرقة "المزايدات" وسندان "المرجعيات"، بالقدر ما كنا نتمنى أن يتوهج لهب النقاش ويرتفع منسوب الجدل –أولا- حول السبل الممكنة لتحقيق المصالحة بين أنفسنا وتجاوز ما يتربص بنا من صراعات وخلافات هدامة، تنتصر للمصلحة الخاصة والأنانية المفرطة والولاءات السياسية، أكثر من الانتصار للوطن ولقضاياه المصيرية، كنا نتمنى أن نتجادل بروح مواطنة وبمسؤولية عالية، حول ما يعرقل مسارنا من تحديات ومشكلات متعددة المستويات من فقر وهشاشة وتربية وتعليم وصحة، ومن فساد يعتري ممارستنا السياسية ويجعلها مرادفة لمفردات العبث والريع والوصولية والمحسوبية ..
كان الأجدر، وقبل الخوص في أي نقاش حماسي حول "الحريات الفردية"، أن نتعلم كيف ننصت إلى بعضنا البعض، كيف نتناقش باحترام وتقدير، كيف نتملك جميعا "روح الفريق"، ونفكر سويا في معالجة قضايانا ومشكلاتنا بمواطنة حقة، بعيدا عن الولاءات الحزبية والنعرات السياسية، أن نتعلم كيف نحترم القوانين والضوابط، وكيف نحترم أنفسنا في ظل ما يؤطر حياتنا من قواعد قانونية .. حينها من حقنا أن نخوض في المواضيع والقضايا المصيرية مهما اشتدت حساسيتها، بنضج ومسؤولية ورقي، بعيدا عن المحافظة الحماسية والحداثة المندفعة، غير هذا سننخرط في مواضيع أكبر من وعينا وإدراكنا ونضجنا وتقديرنا، وسنفرض بحماستنا على المشرع، أن ينزل لنا قواعد قانونية أكثر حماسة، لن تستطيع البتة، كبح مهاراتنا وقدراتنا على مراوغة القانون وإفراغه من محتواه.
غير هذا، سيظل حالنا كحال الذي يستفسر عن "الربى" وهو غارق في الرذيلة حتى قدميه، فالعبرة يا سادة، ليست في فك الحصار عن "الحريات الفردية"، ولكن في احترام سلطة القانون والارتقاء بمستوى السلوك والممارسة والتقدير والاحترام ...وفي جميع الحالات، فالقواعد القانونية التي تؤطر تصرفاتنا، ما هي إلا مرآة عاكسة لواقع حالنا ولمستوى وعينا وتفكيرنا وإدراكنا، وإذا ارتقينا، ارتقى القانون، بشكل يعكس نبضنا وأفكارنا ووعينا الجماعي ..ونختم بالقول، أن "الحريات الفردية" قد تكون مطلبا آنيا في ظل المتغيرات الأخيرة، ولا نجد أي حرج في مناقشتها، لكن نرى، أن "الموضوع" يقتضي خلق نقاش وطني متعدد المستويات بموضوعية وتجرد، بعيدا عن "النعرات" الغارقة في أوحال الحماسة، في أفق صياغة وتنزيل قواعد قانونية متوافق عليها، نحترمها أولا ونمتثل لمقتضياتها ثانيا ..