وزن الديمقراطية في الوثيقة الدستورية قد أخذت فيه كتلة ترسيم الأمازيغية ثقلا واضحا، بالفعل كان مكسبا له أبعاد تاريخية وترابية استطاعت النقلة الدستورية لعام 2011 أن تحتويه، بحيث نجد في تصدير الدستور أن؛ "المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم وتنوع مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية - الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية،...". وفي الفصل الخامس؛ "تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء".
وفي الفقرة الموالية منه؛ يحدد قانون تنظيمي مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم، وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، وذلك لكي تتمكن من القيام مستقبلا بوظيفتها بصفتها لغة رسمية. وفي إطار الانتقال من الوثيقة الدستورية إلى القانون التنظيمي؛ أثبتت تجربة الدول المرتبطة بعملية التحول الديمقراطي كيفما كانت نوعية المضمون الدستوري على المستوى النظري، أنه يمكن أن يكون دستورا للحكامة والمؤسسات والحقوق، لكن مع ذلك يبقى سؤال استمرارية المحتوى الديمقراطي للدستور مطروحا. أي يجب أن يستمر القانون التنظيمي لترسيم الأمازيغية على نفس التوجه الدستوري.
بالعودة إلى الوثيقة الدستورية، هناك فعلا متغيرات عديدة تعد مكسبا للديمقراطية، لكن في إطار وجود فضاء عام غير محكم على مستوى المكونات السياسية، -صراع سياسي داخل مجلسي البرلمان يفتقد لمرجعية الدستور-، مما يطرح سؤال ضمانات استمرارية المحتوى الدستوري من جهة -خصوصا ونحن نعلم أن دستور 2011 مفكك نظرا لكثرة الإحالات على القوانين التنظيمية-، واستمرارية خط الأمازيغية الدستورية من جهة أخرى، في ظل تنامي خطاب الهوية في المغرب.
إن التحولات الديمقراطية تتم عبر هذا المعطى الفلسفي، مدركة أنه ليس المهم صياغة الدستور بل العمل به وتطبيقه خصوصا وأن المخيل الجماعي للدستوريين متأثر بمقولة ''نابليون''؛ "الدستور الجيد يجب أن يكون مقتضبا وغامضا". فالدساتير تعتمد منذ نشأتها، على رؤية استراتيجية تتضمن بشكل عام آفاقا مستقبلية (تسعى، ستعمل...، "اللغة التسويفية")، ما جعلها تبتعد عن التفاصيل، مقتصرة بذلك على المبادئ والأحكام العامة، وغالبا ما تعبر عن رؤى فلسفية أو أخلاقية تاركة للقوانين تفصيلها وتقنينها لما يغشاها من غموض. حسب"يان أكيلا" ، فإن صياغة الدساتير تنطوي على درجة عالية من التجريد والتعميم وقلة الدقة والوضوح، هذا ما دفع البعض إلى القول بأن القانون الدستوري ينطوي على غموض بنيوي. لهذا ينبغي أن نميز بين النص والتفعيل، فالنص الدستوري قد يكتب بصياغة ما، لكن التطبيق العملي قد ينحرف.
هناك فرق كبير بين الدستور والقانون التنظيمي، فعادة ما تصاغ الدساتير بشكل عام وتؤكد على مبادئ أساسية تحيط بالديمقراطية وثيقيا أو نصيا، ثم تأتي التفاصيل في القوانين التنظيمية، التي لا تعطي الاستمرارية للديمقراطية بذلك المعنى الذي حدد في الوثيقة الدستورية، أي أن عملية التأويل للوثيقة الدستورية لم تكن سليمة. فالمرحلة الانتقالية للبناء الدستوري وما يشوبها من تحديات ومخاطر قد تنجح (بضم التاء) تجربة الانتقال الديمقراطي إذا تم التغلب عليها، وفي غياب التعامل معها قد يتحول هذا الانتقال إلى تراجع ديمقراطي.
صحيح أن القانون التنظيمي لتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، عرف نوعا من التأخر رغم أن دستور 2011، نص في فصله السادس والثمانون على أنه؛ تعرض مشاريع القوانين التنظيمية المنصوص عليها في هذا الدستور وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ هذا الدستور.
لكن هذا التأخر قد نجد له مبررا يتمثل في كيفية تأويل نص دستوري وثيق مجتمعيا وحساس سياسيا، فمخرجات القوانين التنظيمية تتطلب تأويل الوثيقة الدستورية تكييفا مواكبا لمؤشرات ومعايير الديمقراطية المستمرة، لأن الفاعلين السياسيين يطورون هم أيضا أساليب العمل السياسي بما فيها آليات التحايل والحد من المكتسبات الديمقراطية في الوثيقة الدستورية (مرجعية الحزب وأدلوجته)، لإخراج قانون فيه لاشيء من دستوريته. هذا ما يستلزم وجود إدراك جماعي بضرورة استمرارية المتابعة في استكمال البناء الديمقراطي، -الديمقراطية ليست نظاما محددا-، لأن ادراك ماهية الديمقراطية هو الذي يؤثر على اختيار منهجية القياس والرصد والتفعيل والتأويل والمحاسبة.
بهذا الترابط بين ديمقراطية الدستور واستمرارية المحتوى، ظهرت فكرة أهمية القضاء الدستوري في مختلف الأنظمة التي تناشد الديمقراطية، لتؤسس ثقافة جديدة تخرج الدساتير من جمودها إلى عملية الاشتغال المستمر عبر المؤسسات، وترسخ لمفهوم جديد من الديمقراطية الدستورية الذي يقطع مع مرحلة سؤال تفعيل الدستور. وقد أصبح القاضي الدستوري مع تطور المتغيرات البنيوية لمؤسسة القضاء الدستوري، يمتلك آليات اشتغال تمكنه من ضبط فلسفة التأويل والتفعيل السليم للدستور، وتنظيم العلاقات بين الأجهزة الدستورية لتجسيد فكرة ثنائية الشرعية والمشروعية المتمثلة في الانتقال إلى الدولة الدستورية.
من هنا جاء دور القاضي الدستوري في تقييم ما مدى دستورية القانون التنظيمي لترسيم الأمازيغية، من خلال عرضه على المحكمة الدستورية بمقتضى رسالة رئيس الحكومة، المسجلة بأمانتها العامة فـي 16 غشت 2019، وذلك من أجل البت في مطابقته للدستور؛ وقد اعتبرت من خلاله المحكمة الدستورية أن المواد 1 (الفقرتان الثانية والأخيرة) و2 (البند الأول) و3 و5 و8 (الفقرة الأولى) و9 و13 و30 (الفقرتان الأولى والثالثة) و33، ليس فيها ما يخالف الدستور، مع مراعاة التفسير المتعلق بها. وأن باقي أحكام هذا القانون التنظيمي مطابقة للدستور؛ كما أنها أمرت بتبليغ نسخة من هذا القرار إلى رئيس الحكومة، ونشره بالجريدة الرسمية، مما يعني أننا أمام قانون تنظيمي جاهز. وفي هذا الصدد نسجل نوعا من الانتقال المتماسك بين النص الدستوري والقانون التنظيمي 26.16، وقرار المحكمة الدستورية رقم 19/97، الذي يعبر عن وجود إرادة سليمة ومنسجمة في تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية.
لكن من خلال مشروع القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتحديد مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، الذي أحيل على المحكمة الدستورية، يتضح لنا ظهور عنصر الزمنية بشكل لافت يدخلنا في تساؤلات حول الغاية من ذلك؟
لقد جاءت إطارات زمنية تعطي لهذا القانون التنظيمي مجالا محدودا في الباب التاسع الخاص بمراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وآليات تتبعه بصيغة؛ يعمل بأحكام المواد ... من هذا القانون التنظيمي داخل أجل خمس سنوات على الأكثر ابتدءا من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية.
يعمل بأحكام المواد ... من هذا القانون التنظيمي داخل أجل عشر سنوات على الأكثر ابتدءا من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية.
يعمل بأحكام المادتين ... من هذا القانون التنظيمي داخل أجل خمس عشر سنة على الأكثر ابتدءا من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية.
فمن أصل 35 مادة، نجد 20 مادة محددة زمنيا، فيما يخص خمس سنوات على الأكثر نجد (المواد 4 –الفقرة الثانية- و7 و9 و10 –الفقرة الأولى- و12 و13 و14 و15 و20 و24 و27 و28 و29). وبخصوص عشر سنوات على الأكثر نجد؛ (المواد 4 –الفقرة الثالثة- و6 و10 –الفقرة الثانية- و21 و22 و26 و30). أما فيما يتعلق بخمسة عشر سنة على الأكثر نجد المادتين 11 و 23 .
وقد نبهت المادة الخامسة والثلاثون لعنصر الزمنية عند دخول هذا القانون التنظيمي حيز التنفيذ، بنصها على أنه؛ "يدخل هذا القانون التنظيمي حيز التنفيذ ابتداء من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية مع مراعاة أحكام المادة 31 أعلاه". أي أن تنفيذ هذا القانون التنظيمي يجب أن يستدعي التحديدات الزمنية في المادة الواحدة والثلاثون؛ (خمس سنوات على الأكثر، عشر سنوات على الأكثر، خمسة عشر سنة على الأكثر).
ووقوفا عند مضمون بعض المواد نجد مثلا أن الفقرة الثانية من المادة الرابعة تنص على أنه؛ "...تدرس الأمازيغية بكيفية تدريجية، في جميع مستويات التعليم الأساسي"، وهذه المدة محددة في خمس سنوات على الأكثر، إذن ما مصير هذه الفقرة إذا لم يتم تدريس الأمازيغية بكيفية تدريجية، في جميع مستويات التعليم الأساسي في الأجل المحدد؟ مع العلم أن مستويات التعليم الأساسي تمتد لست سنوات، وإذا أضفنا سنتين للتعليم الأولي قد تمتد إلى ثمان سنوات، وعليه فمن الناحية الإجرائية هناك صعوبة التقيد بالمدة التي تم تحديدها في خمس سنوات على الأكثر، رغم اعتبارها مكسبا من الناحية التدريجية لتعلم الأمازيغية كوجه من أوجه ترسيمها بشكل فعلي ومحدد زمنيا.
وتنص المادة العشرون على أنه؛ "تشجع الدولة على إدماج الثقافة الأمازيغية والتعابير الفنية الأمازيغية في منهج التكوين الثقافي والفني بمؤسسات التكوين التي تعني بالشأن الثقافي والفني سواء العمومية منها أو الخاصة"، وهنا هل يمكن أن نربط مسألة التشجيع بالمدة الزمنية، بكونه لا يعبر عن الالتزام في تحمل المسؤولية. وبه كان من الأجدر توظيف صيغة "تعمل الدولة" مثلا لتحديدها زمنيا.
كما نجد أن المادة السادسة تنص على أنه؛ "يمكن أن تحدث طبقا للنصوص التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، مسالك تكوينية ووحدات للبحث المتخصص في اللغة والثقافة الأمازيغيتين بمؤسسات التعليم العالي"، هنا نلمس نوعا من المفارقة بين التحديد الزمني في المادة 31 (عشر سنوات على الأكثر)، التي جاءت بلغة لا تقبل خيارا آخرا، في حين نجد أن المادة السادسة تبتدئ ب "يمكن" أي هناك خيار عدم الإمكانية، فما الغاية من تحديد المدة الزمنية.
أما فيما يخص المادة 11 التي حددت مدتها في خمسة عشر سنة على الأكثر، فنجدها تنص على أنه؛ " تعمل الإدارة، بكيفية متدرجة، على نشر النصوص التشريعية والتنظيمية ذات الصبغة العامة في الجريدة الرسمية باللغة الأمازيغية. كما يتم بكيفية متدرجة، نشر القرارات التنظيمية ومقررات ومداولات الجماعات الترابية في الجريدة الرسمية لهذه الجماعات باللغة الأمازيغية"، هنا يظهر أن العنصر الذي كان يجب استحضاره هو المكان وليس الزمان، فالجماعات الترابية مسألة تتعلق بالجهة وثقافتها التي تعرف اختلاف بين المناطق –المغرب متعدد الروافد-، فهناك بعض الجماعات التي لن تستغرق مدة طويلة بكونها عبارة عن قبائل تتحدث اللغة الأمازيغية (جهة الشرق، جهة سوس ماسة مثلا)، في حين نجد بعض الجماعات التي سيستغرق فيها التدرج مدة زمنية طويلة (جهة الرباط سلا القنيطرة- جهة الدارالبيضاء -سطات)، إذن هل كان الأصح هو الاقتصار على مسألة التدرج والمكان فقط بدون تحديد الزمن، خصوصا وأن القانون التنظيمي26.16 تعاطى مع مسألة الإختلاف الجهوي القائم في البلاد، فالمادة 18 تطرقت إلى أنه؛ "... مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والجهوية لمختلف مناطق المغرب".
إن الوقوف عند صيغة هذه المواد، كان لداعي ما بعد زمنية التحديد، أي ماهو مصير هذه المواد بعد انتهاء المدة المحددة زمنيا، خصوصا أن القاضي الدستوري لم يتفاعل مع المادة الواحدة والثلاثون، بل قد نجد في قراره ما ينسجم وعنصر الزمنية من خلال اعتباره، أن تحقيق الغاية الدستورية المناطة بالقانون التنظيمي المعروض، متمثلة في تمكين اللغة الأمازيغية من "القيام مستقبلا بوظيفتها، بصفتها لغة رسمية".
وعليه يبقى سؤال مستقبل هذا القانون التنظيمي، هل لخمس سنوات أم عشر أم خمسة عشر؟ ماذا لو لم تساعد إمكانيات الدولة على تحقيق مضمون هذه المواد في المدة الزمنية المحددة؟ وماهي المعايير التي استحضرت بها الزمنية في النص التنظيمي؟ ولماذا تم تجزيئها على هذا النحو؟ لماذ تم تحديد هذه المدة الزمنية في القانون التنظيمي، ولم تترك للبرامج والمخططات؟
إذا كانت نية القانون التنظيمي هي تحديد المدة لإلزام مختلف المؤسسات بالاشتغال على تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، فربما قد يعيد هذا إنتاج فكرة الصراع بين الدولة والأمازيغية إلى الواجهة، إذا لم يتم مستقبلا التوفيق في الزمن المحدد، علما أنه سبق تحديد زمنية مجموعة من البرامج والمخططات ولم يتم الالتزام بها زمنيا، ولنا في زمنية الميثاق الوطني للتربية والتكوين والمخطط الإستعجالي خير مثال على ذلك، وبالتالي كان من الأجدر ترك المسؤولية للمخططات والبرامج في تحمل مسؤولية الزمن لتكون المساءلة والمحاسبة في حدود الإمكانيات والوسائل ولا تمتد لإرادة الدولة.
إن كل هذه الأسئلة يجب أن نمتلك لها إجابات قانونية، لأن كل ماهو متعلق بالحقوق اللغوية والثقافية إن وجدت فراغا قانونيا، إلا وكان متنفسها المقاربة السياسية للموضوع، مما يعني العودة بالأمازيغية إلى زمن ما بعد دستور 2011، أي ذلك الفضاء السياسي العام، باعتباره أساس مجال للتلاقي والتفاعل بين الأفراد، والذي من خلاله يمكن البحث عن ثقافة تأويلية جديدة للدستور، ربما قد تكون الإجابة ممتلكة (بفتح اللام) لدى فئة محددة، ورغم ذلك يبقى سؤال الاختلاف في تأويلها مطروحا.
إن ممارسة السلطة في الدول القائمة على مجتمعات تعددية تقتضي الكثير من الانضباط والحكمة، بحيث لا تخرج عن نصوص الدستور وروحيته، ومن هنا تأتي أهمية السياسة التشريعية واللغة القانونية، فالخلل في التشريع قد يؤدي إلى عودة ذلك المجتمع السياسي المعني، الذي سيكبح عملية تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وسيعيد ذلك النقاش في الفضاء العام حول موضوع نكاد لا ننهيه أو حتما لا ننتهي من الخوض في نقاشه.