بنزاكور: تربية المغاربة على الحس النقدي هو الكفيل بقتل الإشاعات وإبطال مفعول الفيديوهات المفبركة

بنزاكور: تربية المغاربة على الحس النقدي هو الكفيل بقتل الإشاعات وإبطال مفعول الفيديوهات المفبركة محسن بنزاكور، متخصص في علم النفس الاجتماعي

في هذا الحوار مع محسن بنزاكور، متخصص في علم النفس الاجتماعي، يشرح لقراء جريدتي "الوطن الآن"، و"أنفاس بريس"، خلفيات توثيق المجرمين لجرائمهم في تحدي كبير للسلطات العمومية، وكيف أن عددا من الفيديوهات يتم تشاركها بين مستعملي منصات التواصل الاجتماعي تكون لا علاقة لها بالمغرب، في غياب تام لاستخدام أبسط آليات التحقق من صدقيتها، مؤاخذا على الأجهزة الأمنية تقصيرها من حيث التواصل عبر المنصات الاجتماعية:

- من خلال تكرار مشاهد العنف، سواء عن طريق منصات التواصل الاجتماعي أو ما نراه في الشارع، أصبح البعض يتحدث عن حالة واقعية لتفاقم الإجرام واللاأمن ببلادنا، بالمقابل يرى البعض أن هذه الحالة مبالغ فيها، وتلعب منصات التواصل دورا في إشاعتها. في نظرك هل نحن أمام واقع إجرامي أم هو مجرد إحساس باللاأمن مبالغ فيه؟

+ ينبغي التمييز بين نوعين من الأمن: فهناك أمن يتحقق من خلال استقرار الدولة، وهو ما يمنحنا استقرارا وأمنا سياسيا واقتصاديا. وهناك أمن اجتماعي وهو ما نتحدث عنه في هذا اللقاء الصحفي، وهنا يختلف الأمر، لأنه فعلا داخل المجتمع المغربي، وخصوصا في المدن، أصبحنا نعيش نوعا من التراجع على مستوى الاخلاق والقيم، وهو ما يفسر ارتفاع نسب الجريمة باعتراف من المصادر الرسمية.

أخطر من هذا فهذا الإحساس تأثر من خلال توثيق مشاهد العنف هذه، سواء عن طريق الكاميرات المنصوبة في الشارع العام أو التي يرجع ملكيتها للخواص. لكن الأخطر هو هذا التسجيل العمدي لجرائم ترتكب علنا، سواء من أجل إخافة خصوم مجرمين، مثلا الصراعات بين تجار المخدرات، لدرجة جعلت المجرمين يقومون بالافتخار بالجريمة، ويوثقونها كما نوثق باقي أنشطتنا اليومية ونتشاركها مع أصدقائنا في مواقع التواصل الاجتماعي، هكذا لم نعد نسمع عن جريمة ارتكبت هنا أو هناك، بل نحن أمام مشاهد فيديو بشعة توثق لاغتصاب أو تعذيب أو احتجاز، الغرض منها تحدي السلطات العمومية وإشاعة أجواء من الخوف.

وبهذا فنحن أمام جرائم أشد وقعا على المجني عليه، بل أثرها يمتد ليشمل ملايين المتفرجين على هذه المشاهد، وهو ما يسند الإحساس العام بعدم الأمن.. طبعا عندما نتحدث عن الصوت والصورة ومدى تمثل المتلقي لهذه المشاهد نفسيا، فإننا أمام إثباتات علمية تؤكد دور الصورة والصوت في بناء التمثلات، فإذا كانت هذه المقاطع المصورة تقوي من المرور إلى الفعل الإجرامي عند المجرم، فإنها بالمقابل تقوي الشعور بالخوف لدى المتلقي، ومن هنا نكون أمام رهاب نفسي ما يفتأ ينتشر بسرعة كبيرة.

- إلى جانب توثيق مشاهد العنف، نلاحظ انتشار الإشاعات المتعلقة بالأمن المجتمعي، في نظرك ما الذي يجعل المغاربة غير محصنين ضد بعض الإشاعات ويستمرون في تصديقها رغم السعي لهدمها في بلاغات توضيحية صادرة عن الأجهزة الأمنية؟

فعلا، لم نعد أمام مشاهد مصورة للعنف والإجرام، بل أمام قراءات مختلفة لهذه المشاهد المتداولة عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الكل يدلي بدلوه بعيدا عن أي منطلقات علمية أو إثباتات للحقيقة، بقدر ما هي إشاعات تنشر المخاوف، عن طريق كتابات نصوص أو إرفاق هذه المشاهد بتعليقات قد تكون خارج السياقات الزمنية والمكانية. هذه المعطيات كلها عندما نضيف إليها سؤال: من هو هذا المتلقي لهذه المشاهد الإجرامية؟ وعادة نجدهم من الفئات الشابة والنساء، تصبح المعلومة الصحيحة هنا غير ذات مصداقية أو أنها تضخم، وفي جميع الحالات هناك بوادر تجعلنا نعيش أعراض ما نسميه الرهاب الاجتماعي.

- ما هو دور الأجهزة الأمنية في التصدي لهذه الوقائع او الإشاعات؟

الأجهزة الأمنية مقصرة من حيث التواصل عبر المنصات الاجتماعية، فإذا كان التوثيق لمشاهد العنف والإجرام يجد مجالا خصبا للترويج، فإن المهام التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والمجهودات المبذولة غير ذات فعالية في اقتحامها للعالم الافتراضي. وما يقال عن الأجهزة الأمنية يقال عن القضاء، الذي ينبغي أن يشهر مجهوداته في إبراز إدانة المتورطين لأخذ العبرة وتفعيل آليات الزجر والردع، وهذا ما من شأنه إشاعة الطمأنينة لدى الرأي العام. فالحقيقة أن هذا الرهاب الاجتماعي أصبح شبه عام، وكل الأسر مهما علا شأنها تخشى خروج أبنائها ليلا. بمعنى آخر، نحن أمام حقيقة مجتمعية تعتقد اعتقادا جازما بأننا أمام مظاهر عدم الأمن، هذا الإحساس ليس فقط مرده ارتفاع نسبة الإجرام، بل عند رؤية عناصر «حذر»، وهم يؤدون مهامهم في الشوارع العامة ومحيط المؤسسات الوطنية في كبريات المدن. إن مجرد رؤية هذه العناصر وعوض أن تعطي إحساسا بالأمن يتحول ذلك عند البعض إلى إبداء التخوف من وقوع عمليات إرهابية في أي لحظة، مادامت الغاية من هذه العناصر كان هو التصدي لكل احتمال وقوع عمليات إرهابية ومنع الإرهابيين من المرور لمرحلة الفعل، لاحظ كيف أن خلفية التفكير انقلبت بشكل تدريجي، فهل نحن مازلنا بحاجة إلى عناصر أمنية وشبه عسكرية تتجول مبرزة أسلحتها؟ أم لابد من التفكير في صيغ أمنية تحقق القرب من جهة ولا تشكل إحساسا بالخوف في الوقت نفسه؟ مثلا التفكير في شرطة تابعة للمجالس البلدية، حتى تزرع الاطمئنان وتحقق الردع المطلوب في الأحياء والأزقة والشوارع التي ترتفع فيها نسبة الإجرام.

- لكن كيف تفسر إصرار المتلقي على إعادة مشاركة هذه المقاطع مع محيطه، في ظل تكذيبات رسمية، وما يخلفه هذا الإصرار من ضرب للأمن العام؟

‏ بكل بساطة، لأن سرعة انتشار الإشاعة أكبر من تكذيبها، والإشاعة في التعريف هي كل خبر ليس له مصدر، وتنجح الإشاعة في الانتشار لأنها تتلاعب بالعواطف. فعندما يقبل شخص على خبر أو إشاعة وهو مفزوع، يكون نفسيا متهيئا لها ولكل مضامينها، ولو كانت مجرد إشاعة أو لا علاقة لها بالمغرب، أو قديمة، فهو لا يرى في الصورة إلا ما يزكي خوفه وإحساسه بانعدام الأمن، ويغيب عنده الحس النقدي، وهو ما يدفعنا إلى مطالبة الإعلام بالقيام بدور الإخبار، وكذا من وزارة التربية الوطنية بإدراج دروس ومواد خاصة بكيفية التعامل مع الإشاعات سواء كانت شفهية أو مصورة. ونحن هنا لسنا أمام مدارك ومهارات متقدمة جدا، بل الحد الأدنى من الحس النقدي، لأنه لا يعقل أن يظل العقل المغربي مرتهنا لهذه الإشاعات التي تتكرر بصفة دائمة عند كل مناسبة، مثلا، إشاعة حدوث كوارث طبيعية عند كل سنة في فصل الشتاء.. فالمطلوب تدريب الناشئة على اكتساب مهارات الحس النقدي، وخصوصا الشباب، وإنجاز وصلات تحسيسية بالصوت والصورة تنبه من تداول مقاطع فيديو تحتوي على العنف، وتظهر أن مجرد القيام بذلك هو معاقب عليه قانونا. هذا الحس النقدي من شأنه أن يضع حدا لهذا «التطبيع» مع مشاهد العنف والإجرام، ثم إن التربية على الحس النقدي، تجعل المتلقي يأخذ الخبر من مصدره، ولا يلتفت إلى الأنباء المزيفة الصادرة عن مصادر مجهولة او مشبوهة تهدف إلى المس بالاستقرار الاجتماعي، وبالموازاة مع دعم الحس النقدي فإن المجتمع المغربي سيكون محصنا ضد الخزعبلات والخوارق وغير ذلك من الخرافات، لذلك ينبغي الاشتغال على العقليات بالأساس وكيفية تغييرها، خصوصا مع هذه الأجيال الصاعدة التي لها ارتباط بالعالم الافتراضي أكثر من الواقعي..

- هل نحن أمام ضعف مؤسسات التنشئة الاجتماعية، بدءا من الأسرة والمدرسة والأحزاب والجمعيات؟

‏الحس النقدي هو مسؤولية جماعية لكل مؤسسات التنشئة الاجتماعية، وللمدرسة دور أساسي. لكن ما وقع هو أن التعليم في واد والتقدم التكنولوجي في واد، فهناك تفاوت كبير بين هذا وذاك، وما زالت المقاربات البيداغوجية رهينة النمطية التقليدية، وهو ما يربي في الطفل نوعا من التبعية وعدم الإبداع في المدرسة نفسها.

أكثر من هذا يصبح المدرس عند الطفل «إلها معرفيا»، منه تستمد المعرفة. وبهذه النمطية تصبح منصات التواصل الاجتماعي لدى الشاب المراهق مصدرا للمعرفة والأخبار، كل هذا نتيجة عدم زرع الحس النقدي لدى التلميذ، مما يولد لديه أزمة ثقة في باقي المؤسسات الرسمية، في الوقت الذي كان ينبغي على المدرس أن يعلمه أن المعلومات كثيرة فيها الصحيح والخاطئ، والمفروض هو التثبت منها، وأن تكون مستقاة من مصادرها الرسمية، وأن يأخذ مسافة زمنية في التفكير وعدم تقاسمها مع الغير بمجرد التوصل بها، وأن يستعمل اجتهاداته المنطقية والعقلية والعلمية عند تلقي كل خبر..

بالعودة لسؤالك السابق حول استمرار انتشار الإشاعة رغم صدور بلاغات تكذيبية، فإنه ينبغي علينا أن نتفهم هذا المتلقي الذي يلبي لديه حاجة نفسية عند استمرار تصديقه ومشاركته للأخبار الزائفة، وهذا مرتبط بإشكالية كبرى تتعلق بفقدان جزء كبير من المغاربة للثقة في الطبقة السياسية والمؤسسات الرسمية،. وبالتالي، فإن كل تكذيب رسمي هو في نظره تأكيد لمشاعره التي يزكيها دليل مادي هو شريط فيديو، لأنه أصلا هو ضعيف إن لم نقل منعدم الثقة بالمؤسسات الرسمية، وعندما يفقد المواطن الثقة في واقعه، يسهل عليها «استقطابه» افتراضيا، ويصبح سهل الكذب عليه بأخبار زائفة، وهذه الثقة في الواقع من الصعب بناؤها مجددا لأنها هدمت لزمن طويل..

- نحمل الأجهزة الأمنية، وخصوصا الشرطة، مسؤولية كبيرة في هذا الإحساس بعدم الأمن، والحقيقة أن هناك مؤسسات أخرى تتحمل جزء من المسؤولية، ويتعلق الأمر بالدرك الملكي، القوات المساعدة، القضاء، مندوبية السجون..هل تتفق معي أن هذه المصالح تشتغل بمنطق الجزر غير المترابطة عوض الالتقائية؟

‏الجواب هو في الكلمة الأخيرة، الالتقائية، فإذا كانت هذه الكلمة السحرية مفتقدة في العمل الحكومي، وهناك عدد من الخطابات الملكية التي شددت على ضرورة التنسيق بين المصالح الوزارية في أي مخطط أو قطاع. ولكن مع الأسف نصبح أمام قطاع معين، كل وزارة تشتغل عليه بمفردها، وبالتالي فإننا نخطط للتخبط والعشوائية من البداية، وهو ما يفسر هذا التردي وسوء العمل، وبالتالي نحن كما قلت أمام جزر مؤسساتية، وكل طير يغرد في سربه، وهذه حقيقة مغربية ليست حديثة بل قديمة في التسيير والتدبير، ويحضرني مثال الدورية الثلاثية التي أصدرتها وزارة الداخلية منتصف تسعينيات القرن الماضي، فهي من البداية كانت محكومة بالفشل، لان وزارة الداخلية استفردت بالقرار، ولم تشرك معها وزارة التعليم العالي في هذه الدورية، بل نزلت تنزيلا، فكذلك في المسألة الأمنية ينبغي أن تكون التقائية لكل المؤسسات التي ذكرتها في سؤالك. فالمفروض أن يتم تنسيق بين الأطراف المتدخلة في العملية الأمنية، حتى تكون أقرب إلى الواقع، والأكيد سنكون أمام نتائج مثمرة، وينبغي وضع حد لتصرف كل مؤسسة من قناعاتها الذاتية، والإيمان بأن هذه المصالح لها مشترك اجتماعي، لبلورة برامج توافق المجتمع المغربي وتتطابق مع واقعه، وأن تكون هناك مصداقية في القول والفعل، لأن المتلقي عندما يلاحظ أي تناقض بينهما يفقد الثقة، وهذا هو الأخطر.