محمد إكيج:القابلية للفساد

محمد إكيج:القابلية للفساد محمد إكيج
الكل يستنكر الفساد، والكل مقتنع ومدرك أن سبب التردي العام الذي نعيشه سياسيا واجتماعيا وتربويا ومؤسساتيا... سببه الفساد أولا وأخيرا... إلا أننا حينما نحلل هذا الفساد نركز على مظاهره فقط دون أن نبحث عن ميكانيزمات اشتغاله أو عن جذوره العميقة وأسباب استمراره واستشرائه في واقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي والتربوي والصحي...
إن هذا الفساد الذي نشتكي منه ونئن تحت وطأته منذ الاستقلال يشتغل في بيئتنا وفق عدة آليات بنيوية متماسكة منها آلية القابلية للفساد.
ذلك أن نسبة معتبرة من أفراد مجتمعنا لديها قابلية لممارسة الفساد والإفساد، لأنها تتعلم ذلك وتتربى عليه منذ المراحل الأولى من عمرها، وذلك من خلال عدة وسائل وممارسات منها:
الخطاب التداولي حول الفساد والإفساد، حيث يحبل هذا الخطاب بأمثال سائرة ومقولات جاهزة من قبيل: (لقيتي ما ضرب ضرب – ضرب الحديد ماحدو سخون – جاتك الهمزة ما تزكلهاش – ما تكونش نية في الخدمة –كون مطوّر وعايق –عندك إحرثو بيك بحال الحمار – دهن السير يسير...)، وكلها عبارات تصب في اتجاه التشجيع على الغش في المعاملات الخاصة والعامة، والتقاعس عن أداء الواجبات بالكفاءة المتطلبة، وانتهاز الفرص ولو كانت دنيئة وغير قانونية، وامتداح السلوكيات الشاذة في التعامل واعتبارها ضربا من "الذكاء" الذي تنال به أقصى الغايات وأعلى المراتب !!!
تصرفات تصدر من الأطفال الصغار وتبدو "بسيطة" ولكنها تحمل في طياتها الجينات الجنينية للفساد، لأنها تتطور وتنمو من "البسيط" إلى المعقد ومن "الخفيف" إلى الثقيل مع توالي عمر "المفسد الصغير" الذي استأنس واسلتذّ بأول خطوة في عالم الفساد دون منكر ولا نكير (مثال: طفل صغير في المدرسة يأخذ قلم زميله في الفصل الدراسي بنية الاستيلاء والإخفاء، أو حتى عن طريق الخطأ، وحين يخبر والديه تتم تزكية تصرفه مع التأكيد على الحرص على الممتلكات الخاصة (عندك يديروها بيك) !!)
القبول بانتهاك حرمة الممتلكات العامة (حافلات النقل العمومي (BUS) – حاويات الأزبال – مدارس – حدائق – مرافق صحية – ملاعب رياضية – مكاتب إدارية – علامات تشوير الطرقات – أعمدة الإنارة...) بكل أشكال الفساد والإفساد (سطو – تخريب – إحراق – تعطيل – إتلاف ...)، وإن كان لها صميم اتصال بعموم المواطنين أو فيها مصلحة ظاهرة وراجحة للفئات الأكثر احتياجا لتلك الممتلكات أو الخدمات العامة... ويتم تسويغ هذا الاعتداء الشنيع على تلك الممتلكات بدعوى "الانتقام" من جهاز الدولة !! وكأن هذه الدولة جهاز هلامي لا يمت بصلة إلى هؤلاء المفسدين "الصغار" !! أو بدعوى "الانتقام" من المسؤولين الكبار !! وكأن هذه الممتلكات مسجلة ومحفظة في اسم هؤلاء المسؤولين، مع أن الممتلكات الخاصة والحقيقية لهؤلاء المسؤولين الكبار لا تتعرض لأي سوء ولا يجرؤ أحد على الاقتراب منها. وهنا يلتبس الأمر على هؤلاء المفسدين "الصغار"، حيث يمارسون فسادا في حق أنفسهم ومصالحهم وممتلكاتهم العامة بشعارات مخلوطة ومغلوطة، بل ويتم –أحيانا- تبرير مثل هذه السلوكيات المدمرة على أنها "نضال ضد الفساد والمفسدين" !!
وهكذا تتقوى القابلية للفساد نفسيا وتربويا واجتماعيا، فتتحول مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال إلى ظاهرة جمعية تحمل في طياتها كل المتناقضات فهي خفية وظاهرة، وهي ممنوعة ومشروعة، وهي مستهجنة ومألوفة وهي مرفوضة ومرغوبة !!
ولتجاوز هذه القابلية فإننا نحتاج إلى:
بناء الفرد المواطن في جميع أبعاده، كإنسان ووعي ومسؤولية ومشاركة وتفاعل إيجابي... لأن منطلق التغيير ومنتهاه يبدأ من الفرد وينتهي إليه.
تنقية قاموسنا التداولي ومناهجنا التربوية وسلوكياتنا الاجتماعية من كل مظاهر القابلية للفساد والإفساد.
الارتقاء بالممتلكات العامة إلى مقام المقدسات الوطنية وصيانة حرمتها من العبث والتطاول والتخريب...