الحسين العمراني: بعض المهرجانات الفنية والتراثية تستغل عنوان "تحت الرعاية السامية" من أجل الغنيمة (2/2)

الحسين العمراني: بعض المهرجانات الفنية والتراثية تستغل عنوان "تحت الرعاية السامية" من أجل الغنيمة (2/2) الإعلامي الحسين العمراني

في الجزء الثاني والأخير من جلستنا الحميمية مع الإعلامي المتميز الحسين العمراني، تطرقنا إلى مسؤولية المجلس الأعلى للحسابات في مراقبة المال العام الذي يصرف على هذه المهرجانات بدون حسيب أو رقيب، والتركيز على أهمية تفعيل آليات البرمجة والمراقبة والتتبع للمجالس الجهوية كمؤسسات منتخبة جهويا، فضلا عن دور وزارة الثقافة، ومديرية المهرجانات في تثمين وتحصين الموروث الثقافي الشعبي ورعاية المهرجانات ذات البصمة والخصوصية المجالية. علاوة على أهمية اختيار وانتقاء الكفاءات الوطنية المتمرسة في مجال التنشيط والتقديم، والتواصل مع الجمهور المغربي، بعيدا على ثقافة "مول العرس" و"أباك صاحبي".  فكانت خلاصات جلستنا صادمة، ومقلقة حد القرف، بعد الوقوف على عدة معطيات وحقائق تقدمها جريدة " أنفاس بريس" لعموم القراء.

 

إن المجالس الجهوية مدعوة اليوم إلى تثمين وتحصين، خصوصية الموروث الثقافي الشعبي بمختلف أقاليمها، والعمل على تقنين وتصنيف كل المهرجانات التي تنظم في مجالاتها الترابية، والتي تدعمها ماديا ولوجيستيكيا، وتخصص لها ميزانيات مهمة كل سنة من المال العام، والعمل على إلغاء النسخ التي تكرر نفسها شكلا ومضمونا، والتي لا تعدو أن تكون إلا جسرا مؤمنا لتمرير صفقات مشبوهة. ولن يتأتي ذلك إلا بإعادة صياغة دفاتر التحملات وفق رؤية واستراتيجية تهدف إلى القيام بقراءة نقدية للأهداف والمهام على المستوى الثقافي والفني والإبداعي، في أفق عملية التصنيف حسب نوعية عناوينها وشعاراتها ومدى التزاماتها بفسيفساء الأنماط التراثية والغنائية والموسيقية التي تتميز به كل جهة.

 

هذا العمل يحتاج إلى وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، من خلال استقطاب الطاقات الخلاقة والمبدعة (التي توارت إلى الخلف وسط هذا الضجيج والفوضى التي حولت الحقل الإبداعي إلى " سوق تجارية")، وتكوين فرق عمل/ لجن جهوية متمكنة وكفئة، مشهود لها بعلو الكعب الفكري والثقافي والإبداعي والفني، وتمنح لهذه الفرق/ اللجن بعض الصلاحيات لتعزيز سلطتها التقديرية بنوع من الصرامة والالتزام والانضباط.

 

لقد تسلطن لوبي "المهرجانات" مغتنما فرصة الاحتماء بشعار: "تحت الرعاية السامية"، لتوزيع الغنيمة، وعبدت له الطريق بتواطؤ مع "مافيا" الريع الثقافي والفني، لاختراق المؤسسات والجمعيات التي تنظم المهرجانات والتظاهرات الفنية. وأضحى يتلاعب بكل الأذواق الفنية ويستهزئ من أعلام وشيوخ تراثنا وموروثنا الثقافي الشعبي، ويستعمله فنهم وأنماط أغانيهم وموسيقاهم كورقة رابحة لتشتيت التعويضات يمنا وشمالا على الواصفين والمقربين والمحظوظين.

 

إن الجمعيات التي تلعب دور الجهة المنظمة للمهرجانات، بإيعاز من الجماعات المحلية (المؤسسات المنتخبة) تتوافق على وضع اسم "مدير المهرجان" بشروط مسبقة، وتشتغل بمنطق "البورصة والأسهم" لتحديد "سومة" و"أسعار" رؤوس الفنانين الذين سيمتطون صهوة منصة السهرات، والتنشيط والتقديم. طبعا مع تحديد النسب المئوية (20% إلى 30%) التي ستخصص لهذه الشخصية أو تلك من التعويضات المتفق عليها في كواليس الإعداد والبرمجة.

 

في هذا السياق، وانطلاقا من تحليلنا ونقاشنا الموضوعية، انتصب أمامنا سؤال حارق وملح يرتبط بدور المجلس الأعلى للحسابات، كآلية لافتحاص ومراقبة المال العام من العبث؛ والذي يتوفر على كفاءات قضائية قادرة على ضبط كل الخروقات والتجاوزات، وتشكلت قناعة راسخة، بأنه لا مفر من ربط المسؤولية بالمحاسبة للخروج من هذه الفوضى والتسيب العارم الذي يعاني منه الفنانون والمبدعون المهمشون والمقصيون والمحرومون، من التواصل مع جمهورهم في مجالاتهم الترابية. ولن يستقيم حال مهرجاناتنا الفنية ويرضى جمهورها الذكي، إلا بالمراقبة الصارمة والتتبع والحرص على تقنين صرف المال العام، والضرب بيد من حديد على كل من يتورط في تبذيره بطرق مشبوهة.

 

من الأمثلة الفاضحة في سياق تبذير المال العام وتشتيته بسخاء في هذا المهرجان أو ذلك في غياب المراقبة والمحاسبة، هو لما تجد "اسم فنان" أو "فنانة " تختلف تعويضاته من مهرجان لآخر، دون أن تتغير شروط العرض والعقدة في الزمان والمكان. فقد يحصل مثلا على تعويض يقدر ب (5 ملايين) في سهرة معينة، لكن بقدرة "إدارة مهرجان" بمنطقة أخرى قد ينتفخ المبلغ ثلاثة أضعاف أو أكثر، ليطرح السؤال من جديد: ما هي المؤشرات الفنية التي تعتمدها "إدارة المهرجان" في تحديد تعويضات هؤلاء الفنانين المحظوظين؟ وكيف تتغير مبالغ التعويضات من مهرجان لآخر؟ وهل يعقل أن يتم مضاعفة التعويضات بشكل صاروخي مقارنة مع مهرجانات أخرى؟

 

الإجابة عن هذه الأسئلة بشكل شفاف، محرج جدا، ويكشف الوجه الحقيقي للمتسللين لمنصات المهرجانات الفنية أمام جمهور يتحسر ويتأسف لما وصل إليه الحقل الفني والتراثي من إسفاف، وتحويله في زمن الرداءة إلى ضرع بقرة حلوب. لذلك فمجلس جطو مطالب لاقتحام وافتحاص الميزانيات المخصصة للمهرجانات، والاطلاع على أوجه صرفها. ونفس الشيء ينتظر من المجالس الجهوية التي تخصص فصول ميزانيتها لبعض المهرجانات المكررة والمستنسخة الشكل والمضمون. إذ عليها أن تراقب بصرامة برمجة فقرات المهرجانات والاطلاع على الوجوه والأسماء الفنية، وهل يتناسب مع خصوصية المنطقة، ويحترم شروط دفاتر التحملات على مستوى المجال الترابي المرتبط بالخصوصية التراثية والفنية والغنائية وطقوس وعادات وتقاليد ساكنة الجهة.

 

يفترض كذلك في مؤسسة مجلس الجهة ألا تكون طرفا في تنظيم المهرجانات، بل يفرض فيها أن تكون العين المراقبة والمتتبعة والمؤتمنة على المال العام، من خلال التأشير والموافقة على فقرات برامج المهرجانات الإيجابية التي تحترم نفسها، وتحترم ذكاء وذوق الجمهور، وتنتصر للفن الراقي والعميق، المرتبط بالذاكرة الشعبية وبالتراث المادي واللامادي، والحرص على تنفيذها بالشكل لجيد. والرفض بجرأة المؤسسة المسؤولة لكل الألوان والأنماط الرديئة والبهرجة التي تبحث عن الانتفاع والارتزاق.

 

 

لقد حقق برنامج "صناع الفرجة" مهمة التوثيق بالصورة والصوت، لأغلب أنماطنا التراثية، الغنائية والموسيقى الشعبية من خلال جولات طاقمه المتميز عبر كل مجالاتنا الجغرافية، حيث تم وضع هذا المنتوج المغربي الأصيل رهن إشارة كل المهتمين، والمؤسسات الراغبة في تثمينه وتحصينه ورد الاعتبار إليه من خلال تقديم ممارسيه من شيوخ وفنانين في المهرجانات ذات الصلة ببصمته الفنية. وترويجه أمام الجمهور المغربي. وحمايته من الاندثار وتحفيز ممارسيه على المحافظة عليه. وتسليم مشعله للشباب الذي يحمل تراثه في قلبه ويسري في عروقه، ولا ينقصهم سوى إرادة الجهات الوصية والمسؤولة للتعامل معهم وتحفيزهم وفسح المجال لهم لإبراز خصوصياتهم التراثية والفنية الشعبية، بكل تلاوينها الاجتماعية.

 

وعزز الأستاذ الحسين العمراني مرافعته مستحضرا جولة طاقم "صناع الفرجة" بالمنطقة الشرقية، حيث اكتشف بمدينة فكيك مجموعة تراثية تمثل عائلة قديمة بالمنطقة وهم ينحدرون من أصول "العبيد" الذين استقروا سابقا في مجموعة من المجالات الجغرافية منذ فترة السلطان مولاي إسماعيل، حيث كانت تلك المناطق عبارة عن ممرات لعبور القوافل التجارية، وشكلوا في تلك الفترة قوة عسكرية ودفاعية عن حوزة البلاد ضد الهجومات الاستعمارية (العثمانيين)... استقرار "العبيد" بفكيك جعلهم يحافظون ويتشبثون بعاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم وألوانهم وإيقاعاتهم الموسيقية والغنائية، حيث سيبرز منذ ذلك الحين الفن "لكناوي".

 

من المؤكد أن الفن "لكناوي" لم تنجبه رحم أرض الصويرة تاريخيا، ولا يعكس خصوصية مدينة الصويرة بتاتا، وأن هناك مجموعة من المناطق التي استقر فيها الأفارقة الذين تأقلموا مع البيئة والواقع المغربي... هذا اللون التراثي الذي أحياه مجموعة من الشباب بمنطقة فكيك يحمل اسم "دن ـ دن". وهو عبارة عن مزيج بين فن "لكناوي" والغناء الأمازيغي ملقح باللغة العربية ومصاحب بإيقاعات جميلة.

 

من هذا المنطلق ندعو الجهات المعنية بتثمين وتحصين تراثنا المادي واللامادي بأن تبادر بتشجيع هؤلاء الشباب الموهوبين المتشبثين بذاكرتهم التراثية والفنية، وإحياء هذا اللون الغنائي (دن ـ دن)، عوض أن يأتي فنان من خارج المغرب ويحول في حساباته البنكية "الملايين" دون حسيب أو رقيب، وأبناء وشباب الوطن في حاجة ماسة إلى الدعم والتحفيز. وهذا هو المدخل الحقيق لمعالجة اختلالات الوضع الحالي وواقع حال تراثنا الشعبي وفنانيه بمغربنا العميق.

 

لقد حقق مهرجان موازين هذه السنة أرقاما قياسية في استقطاب فنانين وفنانات من دولة لبنان، مع العلم أنهم لا يحملون من صفة فنان إلا الاسم نظرا لمستواهم الرديء، في القوت الذي لا يسمح للفنانين المغاربة بالمشاركة في مهرجانات لبنان؟ ولن تجد ولو اسم مغربي(ة) واحد(ة) مشارك(ة) فيها. وتعتلي منصة السهرات الفنية. السؤال الذي يفرض نفسه هنا والآن: هل المغرب فقد شخصيته المعنوية إلى هذه الدرجة؟ هل المغرب تنعدم فيها الطاقات الفنية المبدعة والأصوات الغنائية الرائعة حتى يتم الاستغناء عن فنانيه في لبنان مقابل هجرتهم نحو الوطن في مواسم المهرجانات؟ لماذا نعطي قيمة للبنانيين والسوريين، نحن لسنا ضدهم ولكن يجب العمل بقاعد تبادل المصالح (اعطيني نعطيك)، إن اهتم الآخر ببلدي اهتم ببلده، وهذا هو مقياس الانفتاح وتعدد الثقافات... يجب أن نمارس الأنانية الإيجابية بشكل يضمن الحقوق والواجبات، يجب إعطاء قيمة للمنتوج الوطني المغربي.

 

إن وزارة الثقافة معنية من خلال مديرية المهرجانات لكي تنسق مع الأقاليم والجهات لوضع حد للتسيب الحاصل في ميدان برمجة فقرات الغناء والموسيقى، بل إن الوقت قد حان لتشكيل المجلس الأعلى للمهرجانات، ليقوم بدور المراقب والمتتبع والملائم للخصوصيات المجالية؛ لتفادي تكرار الاستنساخ المتعمد في غياب التصورات الثقافية والفنية التراثية لدى بعض المؤسسات المنتخبة.

 

يجب وضع حد للعبث واحتكار وجوه وأسماء معدودة على رؤوس الأصابع لأغلب المهرجانات، وكأنها خلقت من أجل أن تقتات من المال العام السايب، وتجدها تعتلي منصة السهرات في الشواطئ والحواضر، والمدن الكبيرة والمتوسطة، في الوقت الذي يتم تهميش ألمع لأسماء الفنية مثل ما وقع هذه السنة "لأسماء لمنور" التي غيبت عن الساحة الفنية وهن جمهورها.

 

ليس من السهل أن تمنح صفة "مدير فني" أو "منشط " لفقرات برنامج مهرجان معين، إذا لم يكن له إطلاع واسع على الثقافة الشعبية ومالك لمفاتيح خصوصيات المناطق المغربية، وضابط لألوانها التراثية وأنماطها الغنائية والموسيقية، وعارف بنجومها وشيوخها وفنانيها، وصادق في أداء المسؤولية، والأمانة المنوطة به. ويتوفر على حيال واسع يمكنه من استنطاق كل تلوينات ثقافتنا الشعبية وما يطلبه الجمهور من أطباق فنية، في سهرات الهواء الطلق. "المقدم" أو "المنشط" الذي لا تتوفر فيه هذه الشروط عليه الابتعاد عن هذه المهمة، (السهل الممتنع). من العيب والعار أن تمنح "إدارة المهرجان" هذه الصفة لكل من هب ودب، ولو كان وجها تلفزيونيا أو سينمائيا (ممثل أو ممثلة)، لأن تقديم السهرات يحتاج إلى الكفاءات القادرة على ولوج قلوب الجماهير.

 

هناك فرق كبير بين تسجيل سهرة داخل أستوديو قناة تلفزيونية، وتقديمها للجمهور عبر الشاشة، وسهرة مباشرة في الهواء الطلق أمام الجمهور، لأن جمهور المشاهدين عبر التلفزيون ليس هو جمهور الهواء الطلق، وبين الفضاءين تورط العديد من أشباه "المنشطين" و"المقدمين". ونفس الشيء ينطبق على فنان جمهور سهرة التلفزيون، وفنان جمهور الهواء الطلق. الفرق شاسع والتخصص أعمق. وهناك من يحمل صفة مقدم سهرة لا يقنع الجمهور أبدا.

 

لقد أصبح دور " المنشط " أساسي في التواصل مع الجمهور، وخصوصا في مهرجانات تراث فن الفروسية التقليدية، التي يتطاول عليها بعض المتطفلين الذين لا يفقهون في فن التبوريدة وعلاقتها بالخيل والفرسان وطرق الركوب ومدارسها وعاداتها وتقاليدها حسب المجالات الجغرافية. مع تسجيل ملاحظة أنه في العقد الأخير بدأنا نلاحظ تطورا كبيرا في كيفية تقديم عروض فن التبوريدة من خلال إيصال المعلومة وثقافة الخيل والبارود للجمهور المغربي العاشق للفروسية التقليدية.