المصطفى روض : هكذا وقعت في "صدمة الملوخية " الدمشقية( 2)

المصطفى روض : هكذا وقعت في "صدمة الملوخية " الدمشقية( 2) المصطفى روض، و صحن" الملوخية" أسفل الصورة
اختار الزميل الكاتب والصحفي المصطفى روض، الكتابة عن الطبخ الذي عشقه وهو صغير بفضل والدته الطباخة.
وحسب ما أخبر به متابعيه بالفايسبوك، وعد المصطفى روض بأن يواصل الكتابة عن هذا الموضوع تحت عنوان: "ومضات غاسترونومية".
هذه الومضات - التي تنشرها "أنفاس بريس" تلاها المصطفى روض، في هذا الجزء الثاني بـ" صدمة الملوخية":
في اليوم الثاني على وصولي إلى دمشق رفقة الرفيقة فتيحة الوافي، عضوة حزب التقدم والاشتراكية آنذاك، تفاجئنا في الصباح الباكر بصاحب الفندق، وهو لبناني الأصل، جالس في قاعة استقبال الزبائن أمام طاولة كبيرة مليئة بكل أنواع الأكل، كان منظر الرجل أشبه بمشهد سوريالي، وبحركة نبيلة تنم عن كرمه، كسر ذهولنا بعد أن نادى علي: "تعالى أبو الشباب، تفضلوا، شاركوني الطعام!"، اقتربنا من المائدة فجلسنا في حيرة من أمرنا والخجل يداهمنا، وقال بصوت مرتفع "كولو يا زلمي، ما تخجلو!"، وبعد أن أحسسنا من تخلصنا من ثقل الخجل، حاولنا معا أن نراقب طريقة أكله لكي ننضبط لها وكأننا أمام سيمفونية تحتاج إلى معرفة مسبقة باستعمال الآلات الموسيقية، لقد حصل لنا مثل ما حصل لأحد أساتذة الفلسفة عندما عين بمدينة ثلاث سيدي بنور، حيث في صباح اليوم الأول، جاءته الجارة ببراد شاي وبصحنين واحد مليء بالعسل و الثاني بزريعة الكتان من دون خبز ولا أي شيء مما اعتاد عليه في وجبة فطوره اليومي، فالتبس عليه الأمر، إذ لم يعرف كيفية أكله، فنادى على طفل الجيران الذي كان يلعب في الخارج، وطلب منه أن يأكل معه، وبسرعة متناهية، غمس الطفل أصبع السبابة في صحن العسل و بعده غمس في صحن زريعة الكتان، فبدأ يأكل، فتحرر أستاذ الفلسفة من حيرته اعتمادا على براءة الطفل وسبابته، فانطلق هو الآخر في الأكل بطريقة لم تكن لتخطر على باله لو لم تطأ قدماه تلك الأرض الطيبة من منطقة دكالة.
وجدنا طريقة أكل اللبناني وفطوره أقل تعقيدا، حيث رمقناه يقطع بأصبعه الرغيف ويغمس في كل مرة في صحن ما، فثمة صحن للبيض المقلي، وصحن اللبنة، وصحن مكدوس، وصحن الحلاوة، والزيتون بأنواعه، وصحن الزعتر رفقة زيت الزيتون، وعدة أنواع من الجبن و صحون أخرى لم أعد أتذكرها، وبذلك، اندمجنا معه في الإيقاع والطريقة مع شرب الشاي الأسود للهضم إلى أن باتت معدة كل منا مليئة عن آخرها. شكرنا الرجل عن كرمه النبيل، وخرجنا باتجاه منطقة البرامكة لزيارة مقر القيادة القومية لكي نعرف تاريخ تسجيلنا لمباشرة الدراسة الجامعية، وبعد أن انتهينا من زيارتنا الاستكشافية للعديد من الأحياء التي كانت أزقتها تبدو لنا معسكرة بشكل مبالغ فيه، دخلنا إلى مطعم قريب من الفندق الذي أقمنا فيه لتناول وجبة الغداء، و كان مليئا بالزبائن وروائح الأكل الطيبة تفوح منه، جلسنا، فمدنا الخادم بقائمة الطعام، فوجدنا أنواعها معقدة وأسماء معظمها لم نسمع بها من قبل، وانتابني الخوف من اختيار أيها وجبة قد تنتهي بخيبة ظني، وكلما تمعنا في قائمة الأكل، كان ينتابنا شعور غريب لا يبعث على الاطمئنان، فإذا بنا نتجرأ معا على طلب أكلة مقلوبة من دون أن نستفسر عن محتواها ومركباتها، ولم نكن نعرف هذا العجب العجاب الذي اسمه مقلوبة، فإذا بنا نفاجأ بأنها فعلا أكلة لذيذة و طيبة ظل طعمها عالقا في ذاكرتنا، وشعرنا باكتمال حظنا الصباحي مع فطور اللبناني، صاحب الفندق، مع وجبة الغداء، ما جعلنا نشعر بالارتياح التام، لكني منذ ذلك اليوم وأنا أتحين فرصة تعلم المقلوبة، وقبل أن أتعلمها، عدت إلى نفس المطعم عندما دعاني زميلي في العمل بمجلة "الحرية" الفلسطينية الشاعر زكريا محمد لكي أتناول معه وجبة الغداء، وما أن جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، حتى وقعت عيني على أكلة الملوخية في قائمة الأكل، شعرت بالارتياح، فلم أتردد في طلبها تفاديا لأسماء الأكلات المعقدة الموجودة بالقائمة، وما هي إلا دقائق حتى وصلني صحني، تمعنت فيه وأنا متأكد من أني طلبت الملوخية وليس شيئا آخر، فلم أجد فيه و لو حبة ملوخية واحدة، وكل ما وجدته في صحني كان مجرد مرق أخضر، فقمت بالمناداة على خادم المطعم، وقلت له سيدي أنا طلبت منك صحن الملوخية فإذا بك تأتيني بصحن آخر، فأعاد لي صرختي الضمنية، صرختين: "وين المشكل يا زلمي، ما هذا صحن ملوخية!"، فاضطررت لسؤاله بهدوء: "سيدي هذه ملوخية أكيد؟"، "نعم، سيدي، أكيد مائة في المائة، احنا ما نمزح!"، شكرته وعدت أدراجي، لحظتها شعرت بأن ثمة إشكالية ملتبسة، لو لم أكن أعرف الملوخية و التي كنت آكلها منذ كنت صغيرا ما أصابتني الصدمة.
عدت لأحملق في الصحن، وكان مرقه يبدو لي مثل مادة الحناء، فتعكر مزاجي و انطفأت شهية الأكل في معدتي، ولما قمت بتذوق صحني، توقفت عن الاستمرار لانعدام الطعم، وبعدها أكد لي زميلي وصديقي زكريا على أن صحني يتعلق فعلا بأكلة الملوخية، فشرحت له أن الملوخية في المغرب مختلفة جذريا على الملوخية الشامية، ومع توالي الأيام سأكتشف أن الملوخية في المشرق العربي لا علاقة لها بالملوخية التي نستعملها في المغرب، لأن ملوخية (تنا) يطلقون عليها هناك اسم "باميا"، بينما الملوخية في المشرق العربي هي عبارة عن نبتة (أنظر الصورة أسفله) خضراء شكلها شبيه بنبتة الريحان. ومنذ تلك اللحظة التي صدمتني فيها مفاجأة صحن الملوخية و طعمها غير اللذيذ، وأنا أرفض أكلها بالمرة إلى أن جاءت لحظة ستجعلني أغير موقفي بشكل جذري من تلك النبتة، وهو اليوم الذي سيحضر فيه صديقي الفلسطيني المرحوم سلامة كيلة ملوخية بلحم الدجاج مع الرز، فوجدتها طيبة جدا حتى أني أصبحت من عشاق أكلة الملوخية، فيما قصة مقلوبة وهو اسم على مسمى حيث تقضي تقنية تقديم صحونها قلب الأكلة عند نهاية طبخها، وهي متنوعة الأشكال حيث هناك مقلوبة بلحم الدجاج وباذنجان، وأخرى بلحم الخروف أو البقر مع الخضر، وثمة مقلوبة بلحم أرانب، وهي على العموم، تكون منكهة بالكثير من التوابل مثل الكركم، الهيل، الكاري، زنجبيل، القرفة، ورق موسى، بالإضافة إلى الملح والفلفل الأسود، لكن طريقة تحضيرها تحتاج إلى تقنية التركيب التي تسمح بإعطائها طعما لذيذا، وذلك بوضع الأرز في ماء ساخن لمدة 45 دقيقة حتى يتغير لونه، ويليه وضع قطع من لحم الدجاج في طنجرة لقليه مع زيت الزيتون والبهارات المشار إليها و بصل مفروم وقليل من الماء و يترك فوق النار إلى أن ينضج، وفي مقلاة كبيرة يتم قلي باذنجان لحاله، وبطاطيس لوحدها، والبصل لوحده، فيتبل الرز، وتوضع في الطنجرة قطع لحم الدجاج المقلي، تركب فوقه قطع باذنجان وتليه البطاطيس و البصل والرز وتعبأ الطنجرة بماء الدجاج، وتترك فوق نار هادئة إلى أن ينضج الأكل بالكامل، وفي الختام، تقلب الطنجرة فوق صحن كبير وتزين بحبات الصنوبر واللوز المقليين أو المحمصين. شهية طيبة!