أساتذة كدوا طيلة موسم دراسي كامل بكل ما عرفه من ارتباك واحتقان متعدد المستويات، انخرطوا مباشرة بعد انتهاء استحقاق الباكالوريا بشقيه الوطني والجهوي، في تصحيح كم هائل من أوراق الامتحانات في ظروف غابت فيها شروط التحفيز والراحة النفسية والبدنية، صححوا في أجواء متعبة وأحيانا مملة مثيرة للقلق والتوتر، بعضهم تحمل لمدة قد تتجاوز الأربعة أيام، عناء التنقل وأحيانا السفر من مقرات العمل إلى مراكز التصحيح، وبعد إنهاء كل ظرف يتم الالتحاق بقاعة المعلوميات، لإدخال النقط ضمن منظومة "مسار" بكل ما تحمله هذه العملية من دقة وتركيز في لحظة لا يسمح فيها بالخطأ، ونفس العملية تكررت بعدد الأظرفة الموضوعة رهن إشارة المصحح.. وعقب انتهاء التصحيح وما يرتبط به من إجراءات، أقبلوا فرادى ومثنى وثلاث ورباع إلى مراكز إجراء المداولات، في عملية ثانية الهدف منها التثبت من سلامة النقط الممسوكة..
وقبل التصحيح والمداولات، تحملوا عناء المراقبة/ الحراسة، بكل ما أضحت تحمله من عناء وريبة وتوجــس، في ظل استفحال العش المدرسي ومحدودية ظروف الحماية على مستوى مراكز الامتحانات أو خارجها، وبعضهم تعرض للعنف أثناء مغادرته لمراكز الامتحانات، من قبل تلاميذ أو أشباه تلاميذ معاقين معرفيا وقيميا، لا يجدون حرجا في ممارسة الغش بدون خجل أو حياء والدفاع عنه بوقاحة، وأحيانا بدعم ومباركة أولياء أمورهم.. وبفضلهم وبفضل كل الأطر الإدارية، تم تخطي الشوط الأول من استحقاق الباكالوريا للموسم الدراسي الجاري؛ وبنفس العزيمة والمسؤولية، تم تخطي الشوط الثاني في إطار الدورة الاستدراكية، وما ارتبط بها هي الأخرى من عمليات، بدءا بالمراقبة مرورا بالتصحيح وانتهاء بالمداولات ..
وما يؤسف له، أن البوصلة بأكملها توجه عادة نحو عدد الناجحين وعدد المستدركين والراسبين ونسبة النجاح وأعلى نقطة على المستوى الوطني وأعلى نقطة على صعيد الأكاديميات، ويتم تجاهل عن قصد أو بدونه، المايسترو (رجل التعليم) الذي ضبط كل إيقاعات الاستحقاقات المرتبطة بالامتحانات الإشهادية وعلى رأسها الباكالوريا "مراقبة" و"تصحيحا".. ولا أحد يتكلم عنه أو يعترف له بما قدم وبما تحمل من عناء وصعوبات وإكراهات في ظروف تنعدم فيها أدنى شروط الراحة والتحفيز. وهي صورة تختزل بحروف بارزة، ما آلت إليه وضعية رجل التعليم من تراجع مثير للقلق، ومن تجاهل ونكران وعدم اكتراث، لكن وبالقدر ما يؤسف لهذه الوضعية، بالقدر ما يكون "الأساتذة" أسعد الناس، وهم يرون الفرحة تغمر تلاميذهم لحظات التفوق والنجاح، ويتلمسون ثمرات ما قاموا به من عمل وتضحية ونكران للذات طيلة موسم دراسي كامل، ولايتقاسمون الفرحة مع من حالفه حظ النجاح فحسب، بل ويحملون مشاعر الأسف والإحباط، تجاه من استدرك أو رسب ..
وحتى لا نتيه بين لغة الأرقام أو نضيع بين نسب النجاح المرتفعة، التي حققت هذه السنة مستويات غير مسبوقة، على الأصعدة الوطنية والجهوية (الأكاديميات) والإقليمية (المديريات الإقليمية)، لا مفر من التأكيد على ضرورة تجويد الظروف العامة المرتبطة باستحقاقات الباكالوريا وتحصينا من ورم الغش المدرسي ضمانا لتكافؤ الفرص وحرصا على مصداقية الشواهد المرتبطة بها، بإعادة النظر في نظام الباكالوريا ككل، بشكل يقطع مع كثرة المسالك والتخصصات والتركيز على أقطاب كبرى (قطب الآداب، قطب العلوم (رياضية، تجريبية)، القطب المهني/ التقني ...)، وتنزيل منظومة تقويمية عصرية تسائل الجوانب النقدية والمنهجية والمواقفية والمهارية بدل الذاكرة والحفظ، قادرة على القطع مع ورم الغش المدرسي، إذ العبرة لم تعد تنحصر في المعلومة، بل في طرق معالجتها وأساليب وأدوات تحليلها وإبداء الموقف بشأنها، وفق رؤية منهجية، تسائل "العقل" بدل "الذاكرة"، وهي مطالب وغيرها، لا يمكن البتة إدراكها وملامستها على مستوى واقع الممارسة، إلا بالجرأة في الإعلان عن "ثورة" شاملة، تغير ملامح المناهج والبرامج والأطر المرجعية وطرائق التدريس والانفتاح الواضح على "تكنولوجيا الإعلام والاتصال"، وجعلها في صلب أية رؤية إصلاحية.
ولن تتوقف الحكاية عند حدود الارتقاء بالمناهج والبرامج والطرائق وأشكال التقويم، بل لا مناص من إعادة الاعتبار للأطر الإدارية والتربوية التي تعد مفاتيح نجاح الاستحقاقات المرتبطة بالباكالوريا بشقيها الجهوي والوطني، من خلال إعادة النظر في "منظومة التعويضات"، بشكل يضمن شروط العدالة والمساواة والإنصاف. وفي هذا الصدد، فقد آن الأوان لتجويد التعويضات المرتبطة بإجراء "التصحيح" وما يرتبط به من مسك للنقط في منظومة "مسار"، والحرص على تخصيص تعويضات لائقة خاصة بإجراء "المراقبة"/الحراسة، أخذا بعين الاعتبار أهمية هذا الإجراء في تحصين الامتحانات الإشهادية ككل، وما أصبح يتخلله من صعوبات وإكراهات (الغش والعنف المدرسيين)، دون إغفال إحاطة مراكز الامتحانات بكل شروط الحماية، وتجويد الظروف المرتبطة بإجراءات التصحيح بما يحفظ الكرامة ويضمن شروط الجودة والفاعلية.. وهكذا إجراءات، يمكن أن تشكل خطوة في اتجاه رد الاعتبار لنساء ورجال التعليم، وجعلهم يقبلون على جميع الإجراءات والمهمات (مراقبة/ حراسة، تصحيح ..) بنوع من الجاهزية والأريحية والحماسة، في أفق تنزيل نظام أساسي عصري محفز ومنصف وعادل، يقطع مع "الاحتقان" ويتيح تربة خصبــة لنمو شتلات الإصلاح الحقيقي بعيدا عن تجارب المختبرات ..
ونختم المقال، بتهنئة التلاميذ الناجحين ونتمنى لهم مسارا جامعيا موفقا، وللراسبين، نقول بأحرف بارزة: "لكل حصان كبوة" و"الطيور على أشكالها تقع" ولا مناص من استثمار الدروس والعبر في الموسم القادم، تفاديا للكبوة الثانية والوقوع المتوالي، وللزملاء الأساتذة، نتمنى عطلة سعيدة، تبدو "كاستراحة محارب"، في انتظـار "موسم جديد" نتمناه سعيدا ومشرقا وآمنا مطمئنـــا، وكل موسم دراسي و"صناع الفرحة والأمل" بألف خيــــر.