عزيز لعويسي: الأمن.. مسؤولية مشتركة

عزيز لعويسي: الأمن.. مسؤولية مشتركة

في واقع تتقاطع فيه مفردات التفاهة والسخافة والتسيب والانحطاط، لا نستغرب أن يحضر الانحراف بكل أنواعه، ويرتفع منسوب الإجرام بكل أشكاله، وأن تتنامى حالات السرقات والاعتداءات على الأشخاص باستعمال الأسلحة البيضاء (سكاكين، مديات، سيوف..) من قبل أشخاص منحرفين منحطين، بعضهم لا يجد حرجا في استعراض القوة والعضلات والتهديد عبر تسجيلات موثقة بالصوت والصورة تنشر بمختلف منصات التواصل الاجتماعي، في مشاهد تكاد تكون شبه يومية، تقوي إحساس المواطن بانعدام الأمن وتحدث حالة من الخوف وعدم الطمأنينة في نفوس الناس، وقبل هذا وذاك تضرب عرض الحائط كل المجهودات التي تقوم بها مختلف المكونات الأمنية في سبيل محاربة كل أشكال الجنوح والانحراف، وعلى رأسها السرقات المقرونة بالتهديد والضرب والجرح باستعمال الأسلحة البيضاء.

مشاهد من ضمن أخرى، تسائل الأجهزة الأمنية وتضع طبيعة عملها تحت مجهر المجتمع بكل أطيافه، ومجهر الدولة والمؤسسات المعنية مباشرة بمهام المحافظة على النظام العام ومحاربة الجريمة (وزارة الداخلية، الأمن الوطني، الدرك الملكي..)؛ لكن إذا ما تم تفكيك بنية المسؤولية، فلا مناص من القول أن ما يحدث من تسيب وانفلات، هو مرآة عاكسة لما يعيشه المجتمع من تراجع في منظومة التربية وانحطاط مهول في القيم والأخلاق ومأزق حاد في المواطنة، في ظل تراجع أو إفلاس مؤسسات التنشئة الاجتماعية من قبيل "الأسرة" و"المدرسة" و"الأحزاب السياسية" و"الإعلام" و"دور الشباب والرياضة" و"المجتمع المدني"، وفي سياق ما يتخلل المجتمع من مشاعر اليأس والإحباط وانسداد الأفق، وكلها منابع تغذي التفاهة والسخافة وتروي التهور والتمرد وتسقي الانحراف والجنوح والإجرام ..

وعليه، فما يحدث بين ظهرانينا من عنف وإجرام متعدد المستويات، هو بالأساس مسؤولية "الأمن" الذي يتحمل وحده "وزر" ما يعرفه المجتمع من تناقضات واضطرابات، وهو في ذات الآن، مسؤولية مجتمعية مشتركة، تفرض على الجميع التعبئة من أجل تجفيف المنابع المغذية لكل أشكال الانحراف والإجرام.. هو بالتحديد مسؤولية "الأسر" التي لابد أن تضطلع بأدوارها التربوية كاملة، ومسؤولية "مدرسة" آن الأوان لمعالجة كل ما تعيشه من مشكلات وارتباك متعدد الزوايا، ومسؤولية "أحزاب سياسية" تكرس كل طاقاتها وقدراتها من أجل "تموقع" أفضل في المشهد السياسي والظفر بالمقاعد والكراسي الشاغرة، بدل الالتفاف إلى المجتمع وتأطير الأطفال والشباب ووضعهم في صلب القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية، و"مسؤولية إعلام" بعض منابره تنتج التفاهة وتكرسها وتشجع عليها، بدل الإسهام في معالجة قضايا الوطن بحياد وموضوعية وفضح العبث والفساد والحرص على إشاعة ثقافة الرقي والتميز والإبداع، وهي أيضا مسؤولية مجتمع مدني ودور الشباب والرياضة في التأطير والتوعية والمواكبة والتتبع، وإبراز الطاقات واحتضان المواهب، وقبل هذا وذاك، هي مسؤولية "دولة" و"حكومات" و"قضاء".. ومسؤولية "مواطن".

"مواطن" لا يمكن البتة أن يتموقع دائما في منزلة "المحتج" و"المندد"، بل لابد له أن يكون شريكا في المهمة الأمنية، بالتبليغ عن الجناة والمنحرفين من مقترفي السرقات وتجار المخدرات ومن مروجي ومستهلكي المخدرات والأقراص المهلوسة..، وتمكين "الأمن" من المعلومة الصحيحة، سواء ذات الصلة بالجرائم المقترفة أو تلك المرتبطة ببعض الأمكنة أو الشوارع أو الأحياء التي ينشط فيها المتهورون والمنحرفون، واستثمارا للطفرة التكنولوجية والتواصلية، يسجل لبعض المواطنين، تسخيرهم لمنصات التواصل الاجتماعي، في فضح المجرمين والمنحطين ونقل بعض الوقائع الجرمية التي تيسر توثيقها بالصوت والصورة، إلى العالم الافتراضي لاعتبارين اثنين: أولهما: الكشف عن الجرائم المرتكبة أمام العموم؛ وثانيها: مساعدة الأجهزة الأمنية على التعرف على الجرائم وأمكنة ارتكابها وصور مقترفيها، بشكل يسمح بتحقيق الفاعلية والنجاعة على مستوى التدخلات. وفي هذا الصدد، يحسب للمصالح الأمنية، تفاعلها التلقائي والمستمر مع ما ينشر في العالم الافتراضي من حالات عنف أو سرقات أو اعتداءات بالسلاح الأبيض أو شكايات مواطنين، أو مطالب جماعية بالأمن والحماية، في ظل تزايد حالات الاعتداءات على الأشخاص، وهو تفاعل مكن من وضع اليد على عدد من المنحرفين و"قطاع الطرق" الذين تم توثيق إجرامهم في مقاطع فيديو تم تداولها على نطاق واسع بمنصات التواصل الاجتماعي..

وإذا كنا قد قسمنا مسؤولية ما يحدث بين عدد من المؤسسات والجهات، فهذا ليس معناه، أننا نحاول أن نجد عذرا للأجهزة الأمنية، أو نبعدها من دائرة ما يحدث من انفلات، فالكرة تلقى دائما في مرمى "الأمن" الذي لابد له من الاضطلاع بأدواره كاملة في محاربة كل أشكال الجريمة، وفق استراتيجيات أمنية واضحة المعالم، تتأسس على أرقام ومعطيات إحصائية واقعية، ورغم ما يمكن تسجيله في الآونة الأخيرة من حالات عنف واعتداء في عدد من المدن، كرست الإحساس بانعدام الأمن، فلا يمكن أن نبخس العمل المستدام والتضحيات الجسام، التي تقوم بها مختلف المكونات الأمنية عبر التراب الوطني بتضحية وتحدي للمخاطر ونكران للذات، في سبيل محاربة الجريمة، والتي مكنت وتمكن، من وضع اليد على عدد من المجرمين الذين كانوا يزرعون الرعب في عدد من المدن التي ينشط فيها الإجرام كالدار البيضاء والمحمدية وسلا وفاس والقنيطرة وغيرها؛ وهي مجهودات لابد أن تتسم بطابع الاستمرارية والفاعلية لقطع الطريق على كل المنحرفين والمتهورين الذين يعبثون بأمن الأشخاص وسلامة الممتلكات.

لكن، لا مناص من التأكيد، أن مجهودات الأمن تبقى قاصرة، ولن تحقق أهدافها المرجوة، ما لم ينخرط المواطن بشكل إيجابي في الشأن الأمني بالتعاون والتشارك وتوفير المعلومة، وما لم تتحمل مؤسسات التنشئة الاجتماعية أدوارها التربوية والتوعية والتأطيرية كاملة، دون إغفال، إعادة النظر في القانون الجنائي، بتنزيل مقتضيات جديدة، تجرم وتشدد العقاب على كل من سولت له نفسه حمل السلاح وإشهاره سواء في وجه الأمن أو في وجه المواطنين العزل، لما لهذه الممارسات من تداعيات سلبية على النظام العام ومن انعكاسات على الإحساس بانعدام الأمن لدى المواطن.

وهي فرصة سانحة، لإثارة الانتباه أن المصالح الأمنية، تبذل قصارى الجهد، في ظل ما تعانيه من إكراهات وضغوطات مرتبطة بالأساس بضعف الحصيص، وأحيانا قلة الوسائل وكثرة المهام، ومن الضروري، تحسين وتجويد ظروف عملها، بما يضمن الفاعلية والجودة والقرب المستدام من المواطن وحسن الاستجابة لتطلعاته وحاجياته الأمنية، مع الحرص المستمر على مد جسور التواصل مع مختلف المكونات المجتمعية، والانفتاح على منصات التواصل الاجتماعي، والتفاعل الإيجابي مع ما ينشر بها من وقائع إجرامية وشكايات، تعزيزا لشرطة القرب من المواطن.. ويحسب للأمن الوطني، تبنيه لاستراتيجية تواصلية متعددة الزوايا، امتدت حتى إلى العالم الافتراضي، تسمح بالتواصل والتدخل الفعال والانفتاح على وسائل الإعلام وإتاحة المعلومة للعموم، وهي بذلك، حققت وتحقق قفزة نوعية على المستوى التواصلي، قياسا أو مقارنة مع "أجهزة أمنية أخرى" مازالت منغلقة على الذات، في زمن التواصل الفعال والإعلام الكاسح...