كريم لمباركي:المبررات الثقافية والرمزية لنشأة الدولة في المغرب بين القديم والحديث

كريم لمباركي:المبررات الثقافية والرمزية لنشأة الدولة في المغرب بين القديم والحديث كريم لمباركي
الفلسفة السياسية هي ذلك الفرع من فروع الفلسفة الذي يركز بحثه حول اكتشاف الحكمة والحقيقة المتعلقة بالمبادئ الأصولية للحياة السياسية،ومعرفة علاقة هذه المبادئ ببعضها بعض،وعلاقات المبادئ السياسية بمبادئ الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية .وبتعريف أدق يقدمه لنا العالم السياسي الهندي "فرما"،تعني الفلسفة السياسة توليد وتركيب الآراء، والمعلومات ،والتأملات،والبديهيات ،والافتراضات والقواعد والتعليمات المتصلة بتوزيع السلط واستخدام القوة في المجتمع ؛أي بتكون الحكومة وتعيين مهامها وتحديد سلطتها وتأصيل المبادئ والغايات الكبرى للمجتمع السياسي،ولا يمكن للسياسة أن تمارس بدون قيام الدولة،من هنا نطرح التساؤلات التالية :ماهي مقومات قيام الدولة الكلاسيكية ؟ما هي الدولة الحديثة وما مقوماتها ؟هل يمكن اعتبار المغرب دولة حديثة؟ألا يمكن اعتبار المخزن هو العصبية التي تضمن استمرارية الدولة المغربية كدولة ؟.
يؤكد ابن خلدون في مقدمته على أن قيام أي دولة يكون وفق أساس من العصبية التي تسندها وتحميها وتجعلها تقوم بالوظائف المنوطة بها ،وعصبية المرء هي العقيدة التي تعضده وتسنده,وهي في الغالب تأتي من قومه وأنسابه،ففي نظر ابن خلدون أن الرئاسة على القوم لا بد من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة ،لأن كل عصبية منهم إذا أحست بغلبة عصبية الرئيس لهم ،أقروا له بالإذعان والإتباع.
وإذا كان ابن خلدون قد جعل من مفهوم العصبية العامل الحاسم في نشأة الدولة ,فإنه لم يتجاهل أثر العامل الديني في هذا الحضور،إذ قرر أن عصبية الدولة قد تتشتت بسبب ما يحدث فيها من تنافس وخلاف ،وهنا يأتي عامل الدين لتأليف القلوب وتوحيدها في الإقبال على الله، فيذهب بالتنافس ويقلل الخلاف حتى يسود التعاون والتعاضد .
والعامل الديني نفسه لابد أن يستند إلى عصبية حتى يكون عاملا ذا شأن ،ويضرب ابن خلدون أمثلة كثيرة بالأنبياء ،إذ يقول "ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا في عصمة قومه ومنعتهم ".يعني بالرغم من امتلاكهم المعجزات فإنهم غير قادرين على تحيقق غاياتهم، وإذا كان الأنبياء لم تخرق لهم هذه العادة (أو القانون)،فما بالك بمن هم أدنى منهم بكثير من رجال السياسية والملك؛وهكذا فحتى تبلغ الدعوة الدينية أهدفها لابد لها من الاستنصار بالعصبية.
هذه باختصار بعض مقومات، وشروط قيام الدولة الكلاسيكية كما وضعها ابن خلدون والتي حصرها في العصبية والدين ، وأصل هذه العصبية كما أكد هو الأقوام والأنساب.من هذا المنطلق نطرح التساؤل الأتي:ماذا يقصد بالدولة الحديثة، وما هي أبرز مقوماتها؟
في الغالب ما نعثر على مصطلح الدولة الحديثة في الكتابات المعاصرة ،ولكن ما المقصود بهذه الدلالة ؟وما مقومات الدولة الحديثة؟
قد يقول قائلا بأن الدولة الحديثة هي التي أسست لنفسها نظاما سياسيا مستقرا في إطار دستوري حر ،ولكن هل يكفي أن يكون نظامها السياسي مستقرا وأن تكون دولة دستورية حتى تكون دولة حداثية؟
في اعتقادي أن الدولة الحديثة هي مجموع السلط والظواهر التنظيمية والأخلاقية التي تسعى إلى خلق قوانين تؤطر الإنسانية،بمعنى أخر هي التي تجعل من الفرد خاضع للقيم البشرية الكونية من خلال إعطاء قيمة للأفراد،وذلك عن طريق عدم قمعهم وانتهاك حقوقهم المادية منها والمعنوية.وما دمنا نتحدث عن الحداثة ،فإن هذه الأخيرة قد جعلت من الحرية وتقدير الذات الإنسانية واحترام قوانين العقل أهم أركانها،بهذا المنطق فالدولة الحديثة هي الدولة التي تصبو إلى خلق قيم إنسانية تجعل من فاعلية الفرد اللبنة الأساس في بنائها،عبر إعطائه قيمة أخلاقية سامية،ومعاملته وفق مبدأ الإنسان من حيث هو كذلك.
ومن أبرز شروط الإنسانية من وجهة نظري هي القدرة على الاستخدام الحر للعقل ،أو خروج الإنسان من قصوره حسب التصور الكانطي،لأن هدف التمدن الإنساني هو تحقيق ما في البشرية من قوة كامنة على تنمية الفكر .فالدولة التي ترنوا إلى الحداثة هي الدولة التي تسعى إلى احترام الإنسان كقيمة وذات مفكرة.وبالتالي فالحداثة تغيب حينما يغيب مفهوم الإنسان.إذن هل يمكن اعتبار المغرب دولة حداثية؟
إن الدولة المبنية على العنف واستعباد الناس,والمناقضة للقيم البشرية،لا يمكننا اعتبارها دولة حديثة ،وإنما هي مؤامرة من أجل القضاء على مفهوم الإنسانية(دولة المغرب)وما دامت دولة تستعمل القوة فهذا دليل واضح أن وصولها للحكم كان من بين ركائزه الضرورية هو السطو والخداع والمكر،وهذه الصفات المقيتة لا يمكن أن تخدم المجتمع ،ومن المحال أن تعكس الصورة الحقيقية للدولة الحديثة؛لأنها لا تنضبط لقوانين العقل،ولا تفهم أي شيء غير الفوضى والعشوائية في التسيير.وكل هذه المميزات نلمسها ماديا في روح الممارسة السياسية التي تسير وفقها الدولة المغربية.
هناك مقومين اثنين لا بد وأن يتوفرا في الدولة الحديثة، ومن دونهم لا يمكن الحديث على هذا المفهوم، وهما:
أولا: أن يكون الاستقرار النفسي والاجتماعي حاضرا بقوة لدى الأفراد لدرجة استشعاره.
وكما هو بديهي فإن مغرب اليوم يعيش تشظيات وصراعات على المستوى الاجتماعي،لأن النظام بصريح العبارة فشل في تحقيق السلم ،ونجح في استغلال المهمشين.
أن تكون دولة جاعلة من فصل السلط أحد مبادئها التنظيمية والقيمية.
لكون الدولة التي لا تحترم فصل السلط، هي دولة تكرس الاستبداد والعنف بدلا من الديمقراطية ،وكما سبقت الإشارة فالعنف يخرب الحداثة.ومن هنا نصوغ التساؤل التالي، ألا يمكن اعتبار المخزن هو العصبية الجديدة التي تعطي للدولة مشروعيتها واستمرارها "كدولة"،ولكن ليس بحديثة طبعا؟.
الدولة مفهوم زئبقي ونسبي تعود أصوله النظرية إلى التراث الأوربي في شقيه الروماني والنهضوي.أما السلطة،وهي مفهوم ثاني المعبر عن دلالة المخزن ،فإنها تتخذ في بعديها المادي والرمزي،شكلين وهما الديني والاقتصادي ،وبين هذين المفهومين الدولة والسلطة.
لا مندوحة من القول أنه من غير الممكن فهم الشخصية الأسطورية لسلاطين المغرب بمعزل عن طاحونة الآلة المخزنية العسكرية التي أخمدت الخصوم السياسيين ،أمثال الرفيقين "عمر بن جلون والمهدي بن بركة"،وبهذا فلا يمكننا تصور السلطان بدون مفهوم المخزن، باعتباره هو الوحيد الكفيل بضمان استمرارية الدولة ويضفي عليها الشرعية وبواسطته يحقق هذا الكيان وجوده المادي والروحي معا، هذا ما يجعل السلطة السياسة في يد النظام وحده وغير محايثة للأفراد، لكون حضور المخزن بالضرورة يعني حضور القوة والقمع والخنوع مما يحول دون تحقيق الدولة الحديثة.
وبالتالي فالعصبية الجديدة التي تجعل من الدولة المغربية قائمة هي المتمثلة في المخزن لدرجة أنه يستطيع أن يطيح بالدولة لو طمح إلى ذلك. وإذا ما عدنا بالذاكرة إلى الوراء وبضبط سنة 1971 سنجد أن انقلاب الصخيرات كان من زعامة القياديين والجنيرالات المغاربة، وبالأخص الكولونيل "أحمد عبابو" والقائد "محمد أوفقير."
وهكذا أحس النظام المغربي بقوة المخزن فجعله هو الأخر تحث وطأته ،عبر الإستلاء على هذه السلطة وجعل الملك من نفسه القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية،لأنه أضحى يعي بضرورة امتلاك المخزن إذا ما أراد ضمان استمرارية الدولة.
لم يكن حضور مؤسسة المخزن من دون سند ديني فقد كان الوعي بثنائية الدين والسياسة حاضرا في اختيارات السلاطين المغاربة الذين وظفوا البعدين تارة بشكل متداخل، وتارة أخرى بشكل منفصل. لكن السياق العام لهذا التوظيف اتسم في الغالب الأعم باستحضار البعد الأول لخدمة الثاني نظرا لما له من أهمية في إسباغ الشرعية، وفي تدعيم السلطة وضمان استمرارها إذ كان اكتمال السياسي رهينا بدعم الديني.
ومن هذا المنطلق نلحظ أن هناك تمايز بين الدولة الكلاسيكية والدولة الحديثة فحتى الجانب الديني لم تعد له نفس الوظيفة ، فإذا كان قديما ركنا أساسي لبناء الدولة فإن دوره تجاوز هذا في الدولة الحالية ،حيت أصبح يلعب دور إعطاء الشرعية وضمان الاستمرارية مما يجعل الدين مفروغا من فحواه الأخلاقي الذي مثله في الوهلة الأولى، إذ قديما جاء لبناء دولة تزرع بين الأفراد لما فيهم من حيوانية وتطاحن، فإنه اليوم يضمن استمرارية الدولة القمعية التي لا تفهم سوى لغة الهراوي، كما يقول الفيلسوف (كارل ماركس) "الدين أفيون الشعوب "وعبر هذا القول يوضح كارل ماركس حقيقة الأديان ،فهي تخدر الناس وتلهيهم عن حقوقهم التي يستغلها الرأسماليين مما يحول دون تفكيرهم فما هو اقتصادي مادي ،وينشغلون بحياة الآخرة والملكوت والسموات ظنا منهم أنهم سوف يفوزون بالهناء حينها،إذن فالدين هو الوسيلة التي تحقق مشروعية ممارسة العنف لدى الدولة الحالية ،عبر جعل الفقير يفكر في المطلق بالمقابل البرجوازي ينخر الاقتصاد.
وبالتالي فلا حديث عن الحداثة والعلمانية في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لأنهم لم يتخلصوا بعد من أصفاد وقيود التفكير الفقهي ،الذي يجعل منهم خاضعين لسلطة تغتصب حقوقهم الفكرية والمادية.
ختاما فإن الدولة الحديثة ليست أداة للقوة والبطش كما السياسة كذلك،بل الأدهى من ذلك أن الدولة التي تطمح أن تكون حديثة وجب أن تستمد قوتها من الأخلاق، هذه الأخيرة لا يمكن اكتسابها إلا عبر ممارسة الديمقراطية في حكمها ،بمعنى أن يصير الحاكم منصهرا وهموم الأفراد بمعنى منغنمسا في الواقع الإجتماعي، لا متعاليا عليهم وجاعلا الخيط الرابط بينه وبينهم هو المخزن فقط، هذا هو المفهوم الأجدر لكلمة "ديمقراطية "،وحينما تحقق هذه الغاية آنذاك يمكننا الحديث عن دولة حديثة لأنه حينما يحس الحاكم بمعاناة مجتمعه ، تصير الدولة كيان مكبر يعكس صورة الأسر والعائلات الصغيرة.
وبهذا فالدولة الحديثة هي جزء من المجتمع لأنها تعطي دورا للأفراد لكي يمارسوا حقهم في التفكير والنقد والمسائلة٬ وما دمنا نعيش هوة شاسعة بيننا وبين الحكام فلا يمكننا تصور الدولة الحداثية حتى على مستوى الفكر فما بالك بالممارسة٬لأن العنف الممارس من طرف النظام عبر آلة المخزن لا يعبر عن طبيعة نشأة الدولة الحديثة بل يشوه صورتها٬ لهذا على النظام أن يخفض من قوة المخزن إذا ما أراد أن يتقدم٬ فالعنف لا يولد سوى العنف والتأخر على مستوى الفكر٬ وكذا العودة إلى عالم الغاب الذي نشأت الدولة لكي تتحاربه في الوهلة الأولى.