"لحيالة" المراكشية، أو روح الدعابة والمرح والنكتة عند أهل مراكش ( الحلقة 12)

"لحيالة" المراكشية، أو روح الدعابة والمرح والنكتة عند أهل مراكش ( الحلقة 12) ساحة " جامع الفنا " خزان كلام المعنى وفن لحلقة ا
بدون منازع حققت صفحة " مراكش مدينة الألف سنة " التي أحدثها عاشق مدينة سبعة رجال ، الأستاذ "مراد الناصري" سنة 2017، بموقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، أهدافها المتعلقة بالنبش في ذاكرة المدينة الأسطورة، ونفض الغبار عن تراثها العظيم بالكتابة والصورة، وفتح أبواب شخوصها و معالمها العمرانية والتاريخية بمفاتيح الحضارة الإنسانية. " لقد راهنت على إبراز أهمية استثمار مواقع التواصل الاجتماعي في الجانب الإيجابي، وتمرير رسائل مهمة للجيل الحالي على جميع المستويات، فضلا عن مشاركة ساكنة مدينة الحمراء عشقهم لحضارة مراكش..." يؤكد مراد الناصري.
فعلا إن المبحر في صفحة "مراكش مدينة الألف سنة" يجدها تجربة رائدة في استثمار موقع الفيسبوك إيجابيا، حيث نعتبر أنها جديرة بالمتابعة والتعميم والمواكبة الإعلامية، وتقاسم مواضيعها النادرة مع قراء جريدة " أنفاس بريس"، لتعميم الفائدة طيلة شهر رمضان .
".... بنية الخطاب كانت لتتغير من مقام وظيفي إلى آخر مما أكسب المراكشي مع مرور الوقت مَلَكَة التحكم في دواليب الكلام لينتقل هذا الموروث الشفوي بمرور الزمن جيلا بعد جيل، ويكون من نتائجه المباشرة أيضا شيوع روح الدعابة والنكتة في أهل مراكش وهي الروح المرحة التي لا تتفتق وتزدهر إلا في الأوساط متعددة المشارب المتميزة بالتنوع العرقي والإيديولوجي والسوسيو ثقافي والاقتصادي، مما يدفع بالناس إلى الهروب من مشاكل واقعهم المعيش عبر التنكيت والسخرية من الواقع، وهو ما يسهم بشكل فعّال في امتصاص نسبة كبيرة من أي احتقان اجتماعي محتمل..."
الحائل في اللغة العربية هو الحاجز والمانع، لكن لديها معاني أخرى نسرد منها أيضا أنها تفيد الشيء المتغير فيقال حال الشيء أي تغير وتبدل، ويقال كذلك حال عليه الحول أي مرت عليه السنة وانقضت، وفي مراكش يوصف الشخص بكونه "حايل" يتميز ب "الحيالة" وهي استعارة مكنية مفادها أن ذلك الشخص قد عركته الدنيا عبر تجاربها وخبرات سنونها لتجعل منه إنسانا رزينا ذا حجر وحكمة في التصرف والحديث وليس صبيا طائشا يتصرف كيفما اتفق، أو كما يقال بالدارجة العامية "ثقيل ورزين وشارب بلولو"، وفي فن الطبخ، يطلق اسم "المصِيّْر الحايل" على المصِيّر أو الحامض الذي حال عليه العام ليعطي للطعام وبالخصوص للطنجية المراكشية طعما فريدا يزيد من لذتها.
مراكش وكما لا يخفى كانت عاصمة لإمبراطورية مغربية بلغت الآفاق شرقا وجنوبا وشمالا، فيها كان البلاط السلطاني وعلى أرضها عاشت فئات اجتماعية متعددة انطلاقا من أعلى رأس في الدولة ألا وهو السلطان، إلى العبد "القنّ" الوافد من إفريقيا جنوب الصحراء...
هذه التعددية في الجماعات الوظيفية جعلت المراكشي يخاطب فئات اجتماعية عديدة ومتنوعة منها حاشية السلطان ورجال الدولة عبر مختلف تشكيلاتهم، ومنها الصناع والتجار والحرفيون ورجال الدين والعلماء وأخيرا العبيد أو الخدم، وبطبيعة الحال فبنية الخطاب كانت لتتغير من مقام وظيفي إلى آخر مما أكسب المراكشي مع مرور الوقت مَلَكَة التحكم في دواليب الكلام لينتقل هذا الموروث الشفوي بمرور الزمن جيلا بعد جيل، ويكون من نتائجه المباشرة أيضا شيوع روح الدعابة والنكتة في أهل مراكش وهي الروح المرحة التي لا تتفتق وتزدهر إلا في الأوساط متعددة المشارب المتميزة بالتنوع العرقي والإيديولوجي والسوسيو ثقافي والاقتصادي، مما يدفع بالناس إلى الهروب من مشاكل واقعهم المعيش عبر التنكيت والسخرية من الواقع، وهو ما يسهم بشكل فعّال في امتصاص نسبة كبيرة من أي احتقان اجتماعي محتمل...
وإذا تأملنا التاريخ المغربي، فسنجد أن مدنا أخرى على رأسها فاس ومكناس يتميز أهلها بدورهم بإتقان فنون الكلام وبحضور تراث شفوي متأصل وأصيل في شخصية سكان تلك المدن، وهي خصيصة تكاد تنفرد بها المدن والحواضر التي كانت عاصمة للدول والممالك ليس فقط عبر تنوع نسيجها الاجتماعي والطبقي لأن هذا قاسم مشترك بين جميع بلدان ومدن العالم، ولكن أيضا بحضور هذا الهاجس السياسي المتمثل في مرور البلاط الحاكم للدولة برجالاته وبطانته وحاشيته والتأثير الذي يحدثه ذلك في رجل الشارع العادي ليدفعه دفعا نحو التأدب في مخاطبة تلك الفئات الاجتماعية التي تمازج بين الرفاه الاجتماعي والرفعة في المقام داخل دواليب الدولة...
طقس مراكش الحار لعب أيضا دورا لا بأس به في تشكيل شخصية المراكشي وجعلها أقرب إلى التأني والتؤدة منها إلى التسرع والصبيانية أو كما يقال بالدارجة "خف من رزقو، تاينقز من المقلة"، فمراكش معروفة تاريخيا ببطء الدينامية وثقل حركة سير عجلة الأمور داخل أسوارها ، وذلك قبل أن تنهار هذه الصفات تدريجيا تحت وطأة العولمة وعصر الإنترنت التي جعلت لزاما على الأجيال الصاعدة مواكبة خط السير العالمي من حيث الشكل على الأقل في انتظار تكثيف المضمون مستقبلا...
"الحيالة "، ليست صفة واحدة تكتنفها جوانب شخصية الإنسان، وإنما هي في الحقيقة مجموعة من الصفات والخصائص والتي تندمج في ما بينها لتعطينا هذه الشخصية المراكشية الفريدة من نوعها؛ صفات على رأسها إتقان فن الكلام من الصواب والأدب إلى "النقايم" و "التلصاق" في حالة الغضب أو الرغبة في تأديب الآخر أو كف أذاه، إلى طريقة المشي ونوعية الملابس وحتى في الأكل والتعامل، وليس "كريف الميزان" على طريقة العزاوي با مراكش عنا ببعيد.