رضا الفلاح: حاملات الطائرات و الدولار : استعراض للقوة أم ستار لحجب أفول الإمبراطورية الأمريكية؟

رضا الفلاح: حاملات الطائرات و الدولار : استعراض للقوة أم ستار لحجب أفول الإمبراطورية الأمريكية؟ د. رضا الفلاح
في الوقت الذي يرفع فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقولة « لنجعل أمريكا عظيمة مجددا »، ويدشن حملته الانتخابية لعام 2020 تحت شعار « الإبقاء على أمريكا عظيمة »، ترتفع عدة أصوات داخل طبقة من الخبراء والأكاديميين الأمريكيين منبهة إلى معطيات وحجج تؤكد فرضية انحسار هيمنة الامبراطورية الأمريكية Decline rhetoric في ظل صعود أقطاب كبرى حول العالم، وبسبب بلوغ حالة قصوى من تحكم الشركات والأسواق في النظام السياسي الأمريكي، وما ينتج عن ذلك أو يوازيه من بؤس اجتماعي وعنصرية وتنامي رقعة نفوذ الكنيسة الانكليكانية و تأثير إيديولوجية تفوق البيض White supremacy.
هل تعيش فعلا أمريكا نهاية حلم الريادة العالمية بعدما ظهرت مؤشرات تدل على أفول نجمها؟ هل ستحقق نبوءة جون إيكينبيري بفشل الهيمنة الللا ليبرالية كما وصفها في كتابه : « الليفياتان الليبرالي: أصول وأزمة وتحول النظام العالمي الأمريكي » الصادر عام 2012، و قبل ذلك بعقد من الزمن نبوءة إيمانويل طود عندما ألف كتابه الاستشرافي عام 2002 : « ما بعد الامبراطورية. تلاشي النظام الأمريكي »
من الصعب المجازفة بحكم نهائي في هذا الموضوع المثير للجدل، لكن المتغيرات الدولية المتعلقة بميزان القوة العالمي، و كذلك بالتحولات الداخلية للولايات المتحدة الامريكية سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا تفصح لنا عن اتجاه تدريجي يعزز من مصداقية هذا الطرح على المدى المتوسط و الطويل.
بلغ السلوك الخارجي الأمريكي سقفا مرتفعا من العدائية على عدة أصعدة لأنها اختارت السيطرة على العالم بدل قيادته، و قد تحدث زبيغنو بريجينسكي عن مسألة الاختيار الاستراتيجي في كتابه: « الاختيار…السيطرة على العالم أم قيادة العالم ». يتزامن ذلك مع عودة إيديولوجية المحافظين الجدد إلى واجهة صناعة القرار في أجهزة الدفاع و الخارجية و في مجلس الأمن القومي، و يظهر من خلال ذلك أن المؤسسة العميقة Establishment واعية بخطورة و حقيقة المؤشرات الدالة على تراجع القوة العظمى و أفول الإمبراطورية، و هو الشيء الذي يدفعها نحو الهروب إلى الأمام و تبني نزعة متطرفة في توظيف الموردين الرئيسين للقوة الأمريكية: قوة السلاح و التفوق في القدرة على نشر البوارج الحربية و حاملات الطائرات أولا، ثم قوة الدولار الأمريكي كعملة احتياطي عالمية و الأداة النقدية المتحكمة في المعاملات التجارية و الاستثمارية و الأسواق المالية الدولية ثانيا. يطيح هذا التوجه بتنبؤات منظري القوة الناعمة، و في مقدمتهم جوزيف ناي الذي اعتقد أن المفهوم الجديد للقوة سيشكل مستقبل القوة في القرن الواحد و العشرين، و أن الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على ممارسة التأثير في أجندات الدول عن طريق الجذب و الإقناع بدل الغزو و التهديد.
مفارقة التفوق العسكري الأمريكي
يتضح أن القوة العظمى لم تعد واثقة في عظمتها و تريد إحياءها باللجوء إلى تسخير أسباب القوة الخشنة بوتيرة أشد و ضغط أكثر وطأة من السابق، و بالشكل الذي يكون الهدف منه إنهاك و إضعاف باقي دول و مناطق العالم، بما فيهم حلفاءها الأوروبيين التقليديين. لقد لاحظنا كيف أثار توسع الناتو على أبواب روسيا و نشر الدرع الصاروخي في بولونيا و رومانيا، و مؤخرا الانسحاب الأمريكي من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى مع روسيا هواجس أوروبية بالمخاطر التي تواجه أمن دولها القومي و أمن أوروبا عموما، و هي الآن مطالبة بجهد إضافي من أجل تمويل حماية أمنها تحت مظلة شمال الأطلسي كما يلح على ذلك الرئيس الأمريكي ترامب، أو تشييد جيش أوروبي إن استطاعت إلى ذلك سبيلا، لكونه خيارا صعب المنال في ظل وهن السياسة الخارجية الأوروبية و تبعيتها الاستراتيجية، و كذلك أزمة الهوية و المواطنة التي تعيشها.
في نفس السياق، على الصعيد العسكري، انطلقت الولايات المتحدة في العقود الأخيرة في سياسة دائمة للغزو العسكري أو ما سماه كريستوفر هيدجيز بالحرب اللامنتهية Endless Warfare، منذ قصف صربيا سنة 1999 و عقب أحداث الحادي عشر من شتنبر 2001، مع توالي الحملات العسكرية في العراق و أفغانستان و ليبيا، علاوة على خطاب التهديد الدائم بالخيار العسكري ضد ما تصنفه بمحور الشر أو الدول المارقة ( إيران و فنزويلا نموذجا).
منذ نهاية القرن العشرين، يتابع الرأي العام الدولي تبخر حلم النظام الدولي الجديد New International Order الذي بشر به الرئيس بوش الأب في خطابه سنة 1991 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، و يقف الجميع اليوم شاهدا على فشل المغامرات العسكرية الأمريكية طوال العقدين الأخيرين، و ما تخللها من انتهاكات جسيمة ضد حقوق الإنسان ( سجن أبو غريب، معتقل كوانتامو، قتل الأبرياء في مناطق النزاع…).
لقد أصبحت السياسة الخارجية الأمريكية متجردة بشكل فج و صريح من مرجعية المثل النبيلة التي دأبت على التغني بها، كما عدلت عن نهج استراتيجية الفضيلة التي طالما غلفت بها أهدافها البراغماتية، لكونها اضطرت في الأخير إلى الكشف عن أوراقها بعدما اتضح زيف الادعاءات القائمة على شعار تصدير الديمقراطية و حماية حقوق الإنسان. و في هذا الصدد يعتقد ألفريد ماك كوي في كتابه « على ظلال القرن الأمريكي: صعود و هبوط القوة الأمريكية العالمية » أن السبب الذي يقف وراء انهيار الهيمنة الأمريكية يعود بالدرجة الأولى إلى اعتماد النهج العسكري في إدارة شؤون العالم. و يفسر كريستوفر هيدجيز في كتابه « الامبراطورية الأمريكية: جولة الوداع الأخيرة » أن من طبيعة الإمبراطوريات المنهارة و الموشكة على الانهيار نزعتها نحو توجيه مواردها إلى الحرب.
الدولار الأمريكي و التحول من أداة جذب إلى آلة عقاب
في ظل حكم الرئيس دونالد ترامب، اختمرت بعض التطورات المتعلقة بميزان القوة اقتصاديا، و بلغت ذروتها مع تسجيل امريكا لعجز بنيوي في ميزانها التجاري مع الصين و بدء هذه الأخيرة تنفيذ ما يوصف باستراتيجية القرن الاقتصادية « حزام واحد، طريق واحد “ One Road One Belt أو ما يعرف بطريق الحرير، بالإضافة إلى الحرب الاقتصادية التي تجري أطوارها بين القوتين على وقع تغلغل الصين وإذكاء نفوذها الاقتصادي في مناطق مختلفة من العالم و آخرها في أمريكا اللاتينية و بقناة باناما. في مقابل الزحف الاقتصادي الصيني، تتبنى الإدارة الأمريكية مزيدا من ردود الفعل الحمائية على مستوى التبادلات التجارية، بل و يتعدى ذلك إلى حد تبني مواقف عدائية صريحة ضد الشركات الصينية و ضد مصالح الصين في علاقاتها الاقتصادية مع دول آسيوية مثل إيران و باكستان، أو مع دول إفريقية.
تطورات و توجهات مهمة على الصعيد الاقتصادي تكشف اليوم عن حالة الوهن و و تعزز فرضية قرب موعد أفول الامبراطورية الأمريكية، و يمكن أن ندرج في هذه الخانة اللجوء المتزايد إلى سياسات حمائية ضد الصين و الاتحاد الأوروبي، و التهديدات المتكررة التي توجهها نحو العديد من الدول برفع الرسوم الجمركية تارة أو بمعاقبتها على إبرام شراكات اقتصادية مع إيران و دول أخرى يسري عليها قانون « مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات » مثل كوريا الشمالية و روسيا. يظهر جليا أن الدولار باعتباره مفتاح القوة الأمريكي تحول من أداة جذب ناعمة إلى سلاح خشن لمعاقبة الدول و الشركات التي لا تمتثل لتوجيهات العم سام أو تبحث عن مصالحها بعيدا عن نفوذ الامبراطورية. من المؤكد أن اللجوء للتشريعات غير الخاضعة لإقليمية القوانين Extra Territrial Laws و التي تحمل في معظمها وظيفة عقابية و هي خاصية تتفرد بها أمريكا هو أمر نابع من المكانة التي يتمتع بها الدولار الأمريكي، لكنها مكانة تفرض نفسها اليوم بأدوات الجبر و تستعملها الامبراطورية الأمريكية كآلة عقابية عكس ما كانت تتمع به سابقا كعملة مرغوب فيها يتهافت عليها الجميع بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
لقد استيقظ العالم ابتداء من 2007 على أزمة اقتصادية عالمية حادة انطلقت شرارتها من الأبناك و المصارف و الأسواق المالية الأمريكية المتحررة من الرقابة في عقر دار الرأسمالية المعولمة. لقد دفعت هذه الأحداث الكثير من الخبراء و المحللين إلى الاقتناع بوجود انحسار في القوة الأمريكية كما يرى فريد زكريا أن « العالم يسير نحو التحرر من الهيمنة الامريكية »، أو كما يعتقد باري بوزان أن تجاهل أمريكا لم يعد ترفا بل أصبح في متناول الكثير من الدول عبر العالم.
زيف القوة الناعمة
من علامات أفول القوة الناعمة الأمريكية التي نظر لها جوزيف ناي هو ما يرتسم من ملامح مقلقة في أسلوب تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية مع إشكالات مختلفة تهدد الأمن البشري، سواءا عن طريق الانسحاب من المعاهدات الدولية، أو عبر استعراض العضلات عسكريا و نشر البوارج الحربية و حاملات الطائرات العسكرية في البحر المتوسط و في بحر الصين و في خليج كوريا؛ أو عن طريق تهديد الدول بالعقوبات الاقتصادية من قبيل تجميد الرساميل و الحرمان من التعامل بالدولار أو من السوق الأمريكية؛ أو ما نشهده من هوس البيت الأبيض و بعض الفئات من النخب الأمريكية بعسكرة الحدود و مشروع استكمال بناء الحائط على الحدود الجنوبية لمنع دخول المهاجرين.
على صعيد التأثير الناعم و جاذبية النموذج الأمريكي، من الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية تعرف اليوم نزيفا حادا في مقبوليتها لدى دول و شعوب العالم، و تتهاوى مشروعية الدور التي تلعبه دوليا، كما يتهاوى يوما بعد يوم نموذج الحلم الأمريكي و مجتمع الفرص للجميع بفعل اتساع الفوارق الاجتماعية و انتشار الفقر و تفشي معاداة المهاجرين.
تبرز في نفس السياق معالم واضحة تفصح عن عدم قدرة أمريكا على الاضطلاع بدور القوة المهيمنة المعززة للاستقرار الدولي، و يكفي أن نذكر بسياسة الانسحاب الممنهجة من المعاهدات الدولية (اتفاقية باريس للمناخ، الاتفاق النووي 1+5 مع إيران، معاهدة الأسلحة النووية مع روسيا، اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي TransPacific Partnership Treaty)، و كذا الانسحاب من الهيئات الدولية (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة). و دون أن ننسى التماهي المطلق الذي تعبر عنه قرارات و مواقف الإدارة الأمريكية مع انتهاكات إسرائيل ضد الشرعية الدولية و ضد حقوق الشعب الفلسطيني و تواطئها المعلن في الإطاحة بالتسوية السياسية و حل الدولتين.
إن السير في هذا التوجه المعادي للمؤسسات يخذل مناصري تيار الليبرالية المؤسساتية و الواقعية الجديدة على حد سواء، لكنه يقيم حجة أخرى على عدم قدرة الولايات المتحدة على بسط نفوذها عبر ممارسة علاقات القوة من داخل مؤسسات و قواهد النظام الدولي.
إن رفع البيت الأبيض لشعار « إعادة عظمة أمريكا مجددا » ينطوي على اعتراف ضمني بأن أمريكا فقدت عظمتها، و يعكس في نفس الوقت الشعور الذي أصبح ينتاب نخبة من المفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين ببداية نهاية الإمبراطورية.
إن ما نشهده اليوم هو تأكيد التوجهات الانعزالية السلبية في السياسة الأمريكية على مستوى الريادة الدولية و تعزيز القانون الدولي و خدمة العمل الدولي المتعدد الأطراف، و ما يوازي ذلك داخليا على صعيد إعادة بناء القدرات الإنتاجية و استرجاع وحدات التصنيع المفقودة، و تصعيد خطاب الكراهية ضد المهاجرين و المسلمين.
لكن ما يثير الدهشة هو أن وعي النخب الحاكمة بالتغيرات الحاصلة في موازين القوى و القدرة على التأثير في القضايا الدولية يقوي بشكل معكوس من رغبة أمريكا في استعراض قدراتها و تعظيم قوتها الانعكاسية، و هذا ما تفسره إلى حد ما نظرية انتقال القوة Power Transition Theory و بالتحديد هذا السلوك الشرس في علاقاتها الدولية . و في هذا الصدد، يضفي كريسوفر هيدجيز صبغة مجازية على هذه المفارقة من خلال عنوان كتابه الأخير « الإمبراطورية الأمريكية: جولة الوداع الأخيرة » لعام 2018 . هذه الجولة التي تمتد على مدى بضعة عقود و ستسدل الستار حسب قوله على هيمنة الإمبراطورية الامريكية في حركة طبيعية تحاكي اضمحلال الإمبراطوريات السابقة على مدى التاريخ.