بعد معركة نضالية حامية الوطيس أربكت المشهد التربوي وزادت صورة المدرسة العمومية تعقيدا وضبابية في زمن "الرؤية الإستراتيجية"، عاد الأساتذة "أطر الأكاديميات" - يوم 29 أبريل 2019 - عودة "الفاتحين" القادمين من نصر عظيم، إلى أقسام هجروها ذات يـــوم، وتركوا متعلمات ومتعلمين لاحول لهم ولا قوة، ولن نخوض في تفاصيل ما جرى، بعدما واكبنا أزمة ما سمي بالتعاقد منذ أن أشهرت بعض" الأكاديميات"سلاح "فسخ العقدة" في ظرفيــة كان فيها "التعاقد" لازال صبيا في المهــد، كما واكبنا العبث الذي لزم الحوار الاجتماعي لسنوات عجاف، وسلطنا الأضواء الكاشفة عما تعيشه المنظومة التربوية من احتقان متعدد المستويات تراجعت من خلاله صورة "الأستاذ(ة)'' الذي لم تشمله "بركة" الرؤية الإستراتيجية التي بشرت بمدرسة الجودة والحياة، ولم يشفع له "الاحتقان" الذي بلغ مداه، بما في ذلك تفريد مقال تم من خلاله توجيه البوصلة نحو ما أضحى يعرف بأساتذة "الزنزانة 9 " بعدما غمرتها مياه الاحتجاج التعاقدي، وسوف نحاول من خلال هذا المقال، إبراز الوجه الآخر لأزمة حركت الأقلام وأثارت فضول الإعلام، لخبطت السياسات وحمست النقابات، ومست بحقوق المتعلمين والمتعلمات، وعرقلت مسارات التعلمات وأربكت الشوارع والزقاقات، وأرهقت القوات واستنزفت القدرات ...
الأساتذة أطر الأكاديميات أو "المفروض عليهم التعاقد"، لامناص من القول،أنهم أحرجوا صانعي القرار التربوي وأربكوا الشوارع في كثير من المدن بما فيها شوارع العاصمة الرباط، وقوتهم العددية وإصرارهم النضالي، لم يزعج الساسة فحسب، بل كانت له تداعيات أمنية، استنزفت قدرات قوات الأمن التي فرضت عليها طبيعة مهامها الأمنية (المحافظة على النظام العام) أن تقــف وجها لوجه أمام "طوفان بشــري" تحركه رغبة جامحة وقوة نضالية مشتعلة في نزع "مطلب الإدماج" في أســلاك الوظيفة العمومية، وإذا كان لامناص من توزيع صكوك المسؤوليات، فهي توجه بدرجة أولى إلى سياسات عمومية أدخلت المدرسة العمومية في دوامة اللخبطة والارتباك، ولم تحسن تدبير أزمة، كان من المفروض تطويقها والسيطرة عليها في مهدها، بفتح قنوات الحوار .
النضال المستدام خاصة في شوارع العاصمة، وضــع "الأمن" في مأزق حـرج وجعله يقف بين خيارين إثنين لاثالث لهما : المحافظة على النظام العام وفي نفس الآن الإبقاءعلى التدخلات في الحدود التي يتيحها القانون دون إفراط أو تفريط، لكن لامناص من القول، أن بعض التدخلات كانت "معيبة" وتجاوز فيها "التدخل" مداه، وهو عنف لايمكن البتة اختزاله في "رجل أمن" عمله "محكوم" بالتعليمات الصادرة عن الرؤساء المباشرين، فرضت عليه وظيفته الأمنية أن يتموقــع عند "فوهــة بركـان".
الأمن مهمته أمنية بامتياز، مرتبطة بالمحافظة على النظــام العام، وهي مهام مؤطرة بموجب القوانين ذات الصلة التي تحدد حدود ومساطر التدخل لفض كل أشكال التجمهر والمظاهرات غير المرخصة بالشارع العام، والمنطق يقتضي أخد بعين الاعتبار الكثافة العددية الضخمة للأساتذة المحتجين والتي تقدر بالآلاف، لتبين حجم الضغط الذي كانت عليه القوات الأمنية، وهو ضغط سقط في بعض الحالات في خانة العنف المتجاوز، الذي لايمكن إلا إدانته، لأن الجنوح إلى العنف، لن يساهم إلا في تقوية جليد الاحتقــان وجعله أكثر تحملا وأكثر صلابة وأكثر إصرارا...
الحكومة (الوزارة الوصية) تفاعلت إيجابا مع مطالب المحتجين، بعدما اعترفت بهشاشة عقود التوظيف، وبادرت إلى تنزيل وتجويد "النظام الأساسي للأساتذة أطر الأكاديميات" (13 مارس 2019) بشكل أســس للتوظيف الجهوي، لكن الخطوة لم توقف عجلة الإضراب ولم تكبح جماح الاحتقان، في ظل إصرار المحتجين على إشهار سلاح "الإدماج" أو "البلوكاج"، وهو مطلب يمكن القبول به والإقرار بشرعيته في شقه الأول (الإدماج)، لكن الشق الثاني (البلوكاج) فتح هوامش رحبة لطرح أسئلة مرتبطة بالحقوق والواجبات والالتزامات والمسؤوليات، ومدى واقعية المطلب ومدى إمكانية ترجمته على أرض الواقـــع، قياسـا للكثافة العددية للأساتذة المحتجين (70 ألف) ، وقياسا للتوجه العام للدولة في تبني خيار التوظيف الجهوي الذي يبرره الموقف الرسمي بتنزيل الجهوية المتقدمة وتجسيد اللاتركيز الإداري على أرض الواقع ...
سلاح "البلوكاج" يجسد مفهوما طبع القاموس السياسي خلال السنوات الأخيرة ، تعكسه مفردة "العصا فالرويضة" التي حضرت في أكثر من مناسبة من ضمنها "البلوكاج" الذي أجهز حلم "عبدالاله بنكيران" في ترأس الحكومة للمرة الثانية، و"البلوكاج" الذي تحكم في قرار "حزب الاستقلال" الخروج من الحكومة، و"البلوكاج" الذي طال"الحوار الاجتماعي" لسنوات عجاف، ولعنة "البلوكاج" التي لم يسلم منها حتى "مشروع القانون الإطار للتربية والتكوين" الذي لازال راكدا في البرلمان إلى أجل غير مسمى، وهو مفهوم يحمل دلالات نفسية وسوسيولوجية نترك الخوض في تفاصيلها للمختصين، وماهو واضح للعيان، أن الأساتذة"أطر الأكاديميات" وضعوا الحكومة (الوزارة الوصية) بين خيارين إثنين لا ثالث لهما، إما "الإدماج" أو"البلوكاج"، بمعنى إذا لم يتم كسب رهان "الإدماج"، سيتم إشهار "سلاح البلوكاج" الذي يعني"العرقلة" .. إرباك الشوارع، التأثير على النظام العام، عرقلة سيرورات السنة الدراسية، بما في ذلك المساس الناعم بحقوق المتعلمات والمتعلمين ...
في ظل القطيعة وانسداد باب الحوار، حضر"البلوكاج" بقوة، بشكل جعل "شبح" السنة البيضاء يخيم على موسم دراسي استثنائي بكل المقاييس، مما فرض على الوزارة الوصية التحرك والتصرف، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عبر الاستعانة بخدمات أساتذة متقاعدين وطلبة جامعيين ...إلخ، وهي خطوة وإن كانت تصب في خانة التلاميذ ضحايا الاحتقان، فإنها جاءت "معيبـة" لأن "التعليم" مثله مثل غرفة العمليات، لامكان فيها للعبث أو الارتجال أو التجربة أو "الديبناج"أو "الترقيــع"، وهنا تحمل المسؤولية لمن ساهم في فعل "الإرباك" ومن وقع في "الارتباك"، وكان من الأجدر، أن يتم التخلص من "جمرة" الأزمة، لا إخفائها برماد عابر"عبور السحاب" ...
على امتداد الأزمة، كان هناك رفض للحوار مع الطرف الأخر(الأساتذة أطر الأكاديميات أو "المفروض عليهم التعاقد")، وهي رؤيــة غير سليمة ساهمت في توسيع الهوة والرفع من منسوب القلق وانعدام الثقة، قبل أن يتم الانصياع إلى الأمر الواقع بقبول استدعاء ممثلين عن الأساتذة للحضور في لقاء بمقر الوزارة الوصية - غضون العطلة البينية الثانية - حضرته النقابات وممثلي بعض الهيئات من ضمنها "المجلس الوطني لحقوق الإنسان"، التزمت من خلاله الوزارة بمواصلة الحوار بعد العودة للأقسام وصرف الأجور وإيقاف العقوبات الإدارية...وخروج الوزارة ببلاغ صحفي، كان كافيـا لإحداث ارتداد في صفوف الأساتذة المحتجين الذين انقسموا بين مؤيد ومعارض، ليأتي الحسم من جانب المجلس الوطني للتسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد، الذي قرر عدم تعليق الإضراب ومواصلة المعركة النضالية ...
باستثناء مبادرة بعض الشباب البرلمانيين الذين حاولوا القيام بمساعي الوساطة، لوحظ شبه غياب للمؤسسات الدستورية وخاصة "المجلس الأعلى للتربية والتكوين "و"المجلس الاقتصادي والاجتماعي" ...إلخ، ولمكونات الأغلبية أو المعارضة، كما لوحظ غياب "الحكماء" المشهود لهم بالنزاهة والمسؤولية والوطنية، للوساطة في ملف يكاد يعصف بمستقبل السنة الدراسية، وحتى النقابات اكتفت بالمؤازرة والتنديد والمطالبة بالإدماج، دون أن تقدم حلولا واضحة المعالم ومقبولة قانونا وواقعا، وهي معطيات جعلت من الميدان "سيد الموقف" في مقابلة صعبة لاأحد بإمكانه التكهن بتطوراتها ونتائجها، وحتى "البرلمانيين" لم يحركوا ساكنا أمام "معركة" تدور أطوارها على بعد خطوات من البرلمان –باستثناء محاصرة الوزير الوصي بأسئلة روتينية حول الأزمة -، ولم يتفاعلوا مع ما يجري من احتقـــان، واكتفوا بلعب دور"الكومبارس"، و"الحماسة" التي أبانوا عنها في "لغة التدريس" و"القانون الإطار"، كان من المفروض أن يسخروها في التفكير في تقديم حلول أو لعب دور وساطة، من شأنه استئصال شوكة الاحتقان، إنقاذا للسنة الدراسية وصونا لحقوق المتعلمين ...، لتبقى المباراة بين لاعبين إثنيــن: الحكومة (الوزارة الوصية) والأساتذة أطر الأكاديميات ، وهذا يعكس مدى كساد مؤسسات الوساطة ..
الأساتذة المحتجون، بالقدر ما يمكن تثمين وحدتهم وروحهم النضالية العالية، بالقدر ما يمكن مؤاخذة"البعض منهم "، لأنهم قدموا صورا غير مشرفة لنساء ورجال التعليم، بجنوحهم إلى مفردات السب والشتم والتجريح والتشهير في حق كل من أدلى برأي أو عبــر عن موقـــف "مخالف"، وصلت حد "التخويـــن" لزملائهم الذين لم ينخرطوا البتة في المسار النضالي وفضلوا ممارسة مهامهم بشكل اعتيادي، وحتى الذين حضروا "اللقاء" بمقر الوزارة الوصية، لم يسلموا من نبال العتاب والسب والشتم، تصرفات غير مسؤولة لا تشرف البتة "رجل التعليم" لايمكن إلا إدانتها، من منطلق وحيد، أنه لايمكن القبول بإهانة "رجل التعليم" أو المس بكرامته من قبل الغيـر، أما إهانة رجل تعليم لزميله، فهي سلوك مرفوض لايمكن البتة القبول به أو التطبيع معه لأي سبب من الأسباب، وبدورنا لم نسلم من "النيران الصديقة" أثناء مشاركتنا في لقاء إعلامي، ومــع ذلك، لم نرد على أحد ولم نعاتب أحدا، احتراما لقدسية المهنة وتقديرا لزملاء أفقدتهم"الحماسة" جادة الصواب في لحظة "احتقان" غاب فيها التركيـز وحضر فيها "الانفعال" الأعمى ...
حرارة الأزمة التي كانت شوارع العاصمة مسرحا لها، وازتها حرارة على مستوى الإعلام المرئي والمسموع والورقي والإلكتروني، وشكلت مادة دسمة لعدد من الأقلام والتحليلات والبرامج ونشرات الأخبــار، بل أكثر من ذلك،لم تبق الأزمة حبيســة المشهد الإعلامي الوطني، بل امتدت إلى العالمية، كما أن حصر الاحتجاجات والمسيرات والاعتصامات بشوارع الرباط، غير من الحياة اليومية للعاصمة التي قدر لها أن تحتضن الآلاف من المحتجين، وهي وضعية قد يصعب تقدير حجم تداعياتها على المعيش اليومي للساكنة، وتحديدا على المشهد التجاري خاصة بالشوارع التي تكون مسرحا للاحتجاجات، وفي نفس الآن، يمكن المجازفة في القول، أن الاحتجاج المستدام بالعاصمة، من شأنه إحداث نوع من الرواج التجاري (مقاهي، مطاعم ...) ويعطي نوعا من الانتعاشة على مستوى كراء البيوتات والغرف في الأحياء الشعبية لمدينة الرباط كالقامرة ويعقوب المنصور وغيرهما من الأحيــاء ...
بعد أن رصدنا بعض الأوجه الخفية للأزمة، نأتي إلى بيت القصيــد، لنبارك العودة الميمونـــة للزملاء الأساتذة، الذين غلبوا عين العقل وصوت الحكمـة، وقرروا تعليق الإضراب والعــودة إلى الأقســــام، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن السنة الدراسية على وشك الانتهاء والامتحانات الإشهاديــة على الأبـــواب، وهذه الخطوة رغم تأخرها، فلايمكن إلا تشجيعها ومباركتها، لأنها أنقدتهم من السقوط في مفردات التهور والعبث وعدم الانضباط، وضيعت على البعـــض توصيفهم بانعدام روح المواطنة وغياب المسؤولية، وهي فرصة لإعادة ترتيب الأوراق وترميم الصفوف وإعادة النظر في إستراتيجيتهم النضالية وتقويم ما شابها من اعوجاجات في إطار "النقد الذاتي البناء" وفق رؤية متبصــرة تسمح بالتفكير الرزين بعيدا عن الشعارات "الفضفاضة" و"الحماسة المفرطة"، والوزارة الوصية، مطالبة اليوم باستثمار هذه العودة، من أجل الجلوس على مائدة الحوار مع الأساتذة المحتجين بشكل مباشر لأنهم المعنيين بالأمر، والوفاء بما التزمت بـــه، من أجل بناء الثقة الغائبـــة في أفق التوصل إلى حل مرضي يحفظ ماء وجه الجميع، وكل الهيئات والضمائر الحية، مطالبة بالانخراط الإيجابي والإسهام في تقديم الحلول الناجعة التي من شأنها طي الملف بشكل لارجعة فيـــــه، وفي ظل الهوة الكبيرة بين موقف "الحكومة" وموقف"المحتجين"، يــرى الكثير أن هناك "حلا ثالثا"، يتأسس على "النظام الأساسي الخاص بأطر الأكاديميات" وذلك بتأطيره بمرسوم قانون، من شأنه تعزيز الضمانات القانونية وتدعيم الاستقرار المهني والأمن الوظيفي، ونرى في هذا الصــدد أن "القانون" رغم أهميته، قد يكون عديم الجدوى، إذا لم يجد "عقليات" تعطيه "الحياة" وتضمن له "الاستدامة" و"الإجماع"...
ونختــم بالقول، أن " غربــال التعاقد" لايمكن البتة أن يحجب "شمس الحقيقة" ، ما لم يتم التخلص من القرارات المرتبكة وسياسات الترقيع، ومعالجة إشكالية التعليم وفق رؤية شاملة، ترمي إلى النهوض بالأوضاع المادية والمهنية للشغيلة التعليمية التي بدونها لايستقيم إصــلاح، والاستجابة لانتظارات ومطالب بعض الفئات ومنها "أساتذة الزنزانة 9" المتواجدين في الميـــــــدان، وإعادة النظر في المناهج والبرامج وتحسين بنيات الاستقبال والانفتاح على تكنولوجيا الإعلام والاتصــــال،وهذا لن يتأتى إلا بالحوار أولا، والقناعة الراسخة أن "الإصلاح الحقيقي" يمر حتما عبر بوابة نساء ورجال التعليــم ..
نبارك مجددا العودة الميمونة، عساها تكون فاتحة خيــــر للأساتذة والتلاميذ والمدرسة العمومية، وقبل هذا وذاك للوطــن، الذي يفرض علينا التحلي بما يكفي من التضحية والحب والوفاء ونكران الذات، بعيدا عن العبث والتفاهة، وهي فرصة للتأكيد أن "النظام الأساسي" (قيد الإعداد) لابد أن يتم إشراك النقابات في بلورته، تجسيدا للمقاربة التشاركية، وهذا النظام، من شأنه أن يخفف من وطأة الاحتقان الذي يحيط كحبل المشنقة بأعناق نساء ورجال التعليم، إذا توفرت فيه مفردات التحفيز والعدالة والإنصاف، على أمل أن يرد الاعتبار لمن قيل فيه "كان المعلم أن يكون رسولا" ...