عبد القادر الزاوي: التنظيمات الإرهابية والأدوار المستقبلية

عبد القادر الزاوي: التنظيمات الإرهابية والأدوار المستقبلية عبد القادر الزاوي
 

اندحرت داعش في سوريا والعراق، وانحسرت كثيرا الرقعة الجغرافية التي كانت هي وعدة تنظيمات إرهابية موالية للقاعدة تستحوذ عليها في البلدين. اندحرت داعش الكيان الإرهابي الذي دغدغ المشاعر بأحلام العودة إلى مفهوم الخلافة وزمن "السلف الصالح"  كما جرى تصويره في التراث الإسلامي، وتوهم البعض أن بالإمكان انبعاثه من جديد.

ولكن هذا الاندحار لم يشمل ومن المؤكد أنه لن يشمل في المدى المنظور الأفكار التي غذت أوهام التطرف والإرهاب، كما لم يشمل سحق كل العناصر المقاتلة التابعة لكافة التنظيمات الإرهابية، وذلك رغم آلاف الطلعات الجوية التي تعرضت لها، وكثافة نيران المعارك الأرضية التي فتحت ضدها.

 لقد كشف طلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من دول الاتحاد الأوروبي استلام حوالي 800 مقاتل من أتباع داعش وأفراد عائلاتهم ممن يحملون جنسيات تلك الدول، المحتجزون لدى القوات الأمريكية، ولدى وحدات الحماية الكردية "قوات سوريا الديمقراطية" وتهديده بإطلاق سراحهم يهيمون في الأرض إن لم يجر استلامهم بأن هنالك مخططات ما يجري إعدادها من وراء الإصرار على عدم تصفية كل العناصر الإرهابية في الجيوب التي ما تزال تحتمي فيها.

في هذا الصدد تحدثت تقارير استخباراتية عديدة عن أن الآلاف من مقاتلي داعش والتنظيمات المماثلة لها جرى ويجري نقلها أو التغاضي عن تنقلها فرادى وجماعات إلى وجهات غير معلومة، يرى البعض أنها مرشحة لأسباب متعددة لأن تصبح جبهات صراعات أو ساحات عدم استقرار جديدة في نطاق مواصلة تنفيذ ما يسمى بالفوضى الخلاقة على طول الخارطة الجغرافية الممتدة من باكستان إلى المحيط الأطلسي.

لهذا من غير المستغرب أن تشير تلك التقارير حسب اهتمامات واضعيها إلى تنقل أو السماح بتنقل فلول الإرهاب المدحورة تارة إلى سيناء وطورا إلى مالي وليبيا، بل وإلى مخيمات تندوف الانفصالية وشمال نيجيريا، ناهيك عن الصومال وأفغانستان من دون إغفال سعي العديد من الذئاب المنفردة إلى الذوبان في مجتمعاتها الأصلية في القارة الأوروبية وبعض دول الخليج وشمال إفريقيا لتصبح خلايا نائمة يجري إيقاظها متى ما دعت الحاجة إلى ذلك.

وبالنظر إلى التطورات والمستجدات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تبدو الساحات الأكثر تأهيلا في الوقت الراهن لاستقطاب العناصر المقاتلة في داعش وأخواتها بحكم قابلية صراعاتها للتأجيج هي أفغانستان وجوارها، ثم منطقة الصحراء الكبرى على طول امتدادها من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي.

*أفغانستان في سياق التطورات الجارية الآن ليست مطلوبة في حد ذاتها فقد سبق وأن دفعت فاتورة باهظة منذ الغزو السوفياتي في الثمانينات إلى يومنا هذا، فضلا عن أن مفاوضات تجري هنالك على قدم وساق مع حركة طالبان لإدماجها في مسلسل إعادة الاستقرار للبلاد وإعطائها دورا محوريا في ذلك.

ولكن الدور المتظر أن تلعبه الأراضي الأفغانية مستقبلا يتصل بأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لكل من باكستان وشرق إيران الجاري إعداد الوضع فيه لكي يصبح شوكة في خاصرة نظام ملالي طهران المطلوب قصقصة أجنحته وكبح اندفاعاته وتهديداته الإقليمية، وإرغامه على الانكفاء على نفسه بعد نقل المعركة إلى داخل حدوده وإثارة ورقة الأقليات في وجهه، ولا سيما في منطقة بلوشستان حيث تلتقي الأبعاد المذهبية بالعرقية وتترسخ بفعل التداخل الجغرافي والسكاني مع باكستان التواقة إلى لعب دور ريادي في العالم السني إسوة بالدور التركي، وهذا أحسن مدخل لها.

*أما في الصحراء الكبرى فالمنطقة بأهميتها الاستراتيجية وإمكانياتها المنجمية مرشحة للمزيد من تأجيج النزاعات داخل دولها وفيما بين هذه الأخيرة إن امكن، خصوصا وأن عوامل تغذية التوتر فيها متعددة ومتنوعة واستنزاف الأنظمة القائمة فيها وبعض الدول الكبرى المهتمة بها مغر ومجز، وبؤر التوتر فيها كثيرة والخلافات السياسية والحدودية والدينية متوفرة، والثقة تكاد تكون منعدمة بين دولها. فهذه المنطقة على تماس مباشر مع :

/ الصراع القائم في منطقة دارفور التي تشكل وجعا مستعصيا عن الحل للنظام السوداني الذي يعاني أصلا من غضب شعبي عارم يتزايد يوما بعد يوم، ومن متابعة قضائية دولية لم تسقط بعد ولن تسقط ربما إلا بعد أن يسقط النظام نفسه.

/ الصراعات وحروب العصابات في جنوب ليبيا وشمال مالي والنيجر، وهي مناطق غنية بمعادن متعددة وكثيرة، ومؤرقة لكل الأنظمة المحلية ولدول الجوار زيادة على دول الاتحاد الأوروبي ذات المصالح التاريخية الكبيرة في المنطقة كفرنسا وإيطاليا.

/ النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية الذي فشلت لحد الآن كل محاولات تسويته سلميا بفعل تعنت الجزائر وصنيعتها في جمهورية المخيمات، وهو النزاع الذي ينذر بمخاطر كبرى لكافة دول المنطقة، سيما وأن الإحباط المتنامي في مخيمات العار بتندوف بسبب انسداد الأفق يجعل منها بؤرة جاهزة لكل الاحتمالات الشريرة بدءا من تجارة السلاح والاتجار بالبشر وإيواء كبار مهربي المخدرات، وانتهاء بتوفير ملاذ آمن لكل الجماعات الإرهابية وأفرادها الهاربين من ساحات الشرق الأوسط الملتهبة، وساحة تدريب لأفراد الخلايا النائمة والمستقطبين الجدد.

من الواضح إذن أن أيادي خفية كثيرة تقف وراء تسيير الجماعات الإرهابية، وأن من قرر إنهاء دورها ككيان بحيز جغرافي وسلطة إدارية لا يريد أن يفتقد دورها كقوة تهديد ووعيد في مناطق أخرى يراد استنزافها أكثر مما هي مستنزفة الآن. لقد تهاوى الخطر العسكري والاستراتيجي لهذه التنظيمات المتوحشة، ولكنها ما تزال مطلوبة كمصدر قلق أمني كبير. ففي المناطق التي ترزح تحت ثقل الوقائع التاريخية وتعدد المقاربات الدينية والمذهبية تكون الفتنة أشد من القتل.