من ذاكرة "اللعابات".. حصن مختبر الموروث الغنائي الشعبي بصيغة نون النسوة (2)

من ذاكرة "اللعابات".. حصن مختبر الموروث الغنائي الشعبي بصيغة نون النسوة (2) الغناء الشعبي بصيغة نون النسوة (المرددات)

"المرددات " أول نظم غنائي يسمعه الإنسان وهو في بطن أمه

مؤسسة الأم/ المرأة البدوية هي المنتج الأول لإرهاصات نمط "المرددات النسائية"، وفن القول والنظم والغناء والأذكار والمواويل، وهي التي لعبت دورا أساسيا في تشكيل مجموعات الغناء النسائي الشعبي البدوي المعروفة اصطلاحا،  بـ "اللعابات"، المنحدرات من مجالات جغرافية متعددة مثل "العونيات"، من منطقة دكالة أو "العزوزيات" من الرحامنة، أو "الحمريات" من أحمر، أو "الهواريات" من هوارة، أو "الشرقاويات" من بوعبيد الشرقي، وما إلى ذلك من مناطق بربوع المملكة، حيث كن يقمن بترديد "المردّدات"، التي يعتمد فيها على مضامين غناء الماية النسائية بلحنها البسيط جدا، وإيقاعاتها الجميلة، والتي تتأسس على (اللازمة) التي تعيد ترديدها نساء المجموعة، ويفسح المجال للمغنية (الطباعة/ الحفاظة) لكي تردد كلمات (لفراش ولغطا) القائم على شكل (حب وزريعة) وهو "التعداد". لقد بادرت مؤسسة الأم/ المبدعة في تربية الناشئة، فوضعت يدها على بطنها وتحسست حركات جنينها وتواصلت معه بفن القول والكلام الممزوج بالحنان والأحاسيس المرهفة، وغنت لمولودها في بطنها وهو جنين، فالأم الحامل كانت تداعب فلذة كبدها، وتغني لجنينها بلحنها الشجي والعذب ليصل إلى مسامعه، ويتفاعل مع كيمياء صوتها الملائكي بالحركة والتعبير عن الفرح.

لكن قبل الحديث عن "المرددات" بشكل عام لا بد من الإشارة إلى أن هناك ثلاثة اصناف وهي:

 

1ـ صنف "الندابات"

النوع الأول يتعلق بمجموعة النساء "الندابات" اللواتي كن يمارسن نمطا من الرثاء المتضمن لأشعار بدوية حزينة، ونظم يعكس موقف القلق والحزن، ولوعة الفراق وحرقة الوداع، بموت قريب أو حبيب، أو زوج أو أحد أفراد العائلة. حيث كان يتم دعوة "الندابات" المتخصصات في الرثاء الحزين، كطقس يدخل في عادات وتقاليد العالم القروي والوسط الاجتماعي البسيط، وهو كلام/ تعداد مرتجل، يقال في حق الراحل، يمجد شخصية الميت، ويبرز كرمه ومناقبه، ويعدد أفعال الخير وخصال الفقيد في حياته. وفي بعض المناطق (دكالة ـ عبدة ـ أحمر....)، تستعمل "الندابات" أجزاء من كسور جرار الفخار/ الطين لندب وجوههن إلى حد ترك خدوش وجروح تسيل بالدماء في إشارة إلى حرقة الرحيل والفراق، ومشاطرة أحزان أفراد القبيلة والدوار. (طاحت الطيارة من السما/ كاين شي عدادة للبكا/ طاحت الطيارة من السما/ كاني شي عدادة للكرا).

 

 

2ـ صنف "الحضرات"

أما الصنف الثاني فيرتبط بمجموعة النساء "الْحضراتْ" (من الْحضْرةْ)، وهن متخصصات في فن القول المتضمن لرسائل الاستعطاف والاسترحام والابتهال والتضرع، ويستعملون أشعارا صوفية ودينية ترتبط بالأذكار لإضفاء الطابع الروحي في الزمان والمكان على المناسبة/ الحدث بين أفراد العائلة، وهذا اللون دأبت عليه بعض العائلات ببعض المدن المغربية، وتفرعت عنه مجموعات نسائية تمارس هذا اللون الغنائي المتجدد أصواتا وأنغاما وإيقاعات دون الخروج عن الجانب الروحي.

 

3ـ صنف "اللعابات"

والصنف الثالث تشكل من وسط المجتمع الذكوري المحافظ والمهيمن، وهو نتاج السلطة الأبوية داخل المجتمع، حيث كانت الأسرة تقيم لحظات مناسباتها وأفراحها وأعراسها بطريقة تقسم/ تعزل فيها بين الرجال والنساء، ويحتفي الذكور فقط على مستوى الفرجة بمعزل عن الإناث، ويستفردون بالمجموعات الغنائية العيطية للاستماع والرقص، في الوقت الذي تسترق النساء السمع من بعيد ومن وراء الستار، ويحفظن المتون العيطية ويكتبنها بالسمع... على أساس أن العيطة سابقا كانت تغنى بأصوات ذكورية تقلد أصوات النساء، على اعتبار أن المرأة مازالت في تلك الفترة لم تقتحم عالم الغناء العيطي والفن الشعبي.

 

 

لقد أثر ميزان وإيقاع وموسيقى الغناء الشعبي في نفسية النساء المقصيات والمبعدات عن فضاء الفرجة الذكورية، وتشبعن به عن بعد، إلى درجة استحضاره في مجمعهن الاحتفالي الخاص، حيث يعدن إنتاج المتن العيطي بطريقتهن أثناء ممارسة أشغالهن في مختلف الفضاءات. وهكذا أدخلن متونا عيطية في غنائهن البسيط، بعد التقاط صداه عن بعد، وكتابته بالسمع من وراء الستار، واستعملن في ترديده أدوات (الخيمة والنوالة) من حاجيات البيت والمطبخ، كآلات إيقاعية، حيث كانت لحظة حياكة النسيج بمختبر المنجز، فرصة سانحة للاستعانة بخلخال ومضرب الصوف، الذي يحدث رنينا وإيقاعا يساير نسق لحن مرددات أغانيهن، فضلا عن استغلال إيقاع "الطبك"، و"الغربال" اثناء تنقية حبوب القمح من الشوائب وإعداد الطحين والعجين، وطهي الخبز، أو ترديد كلام موزون على إيقاع صوت عملية "نخيض" شكوة الحليب لتحويله إلى لبن وزبد. لقد كانت ومازالت كل البيوت المغربية بالعالم القروي، تحتفظ بمختلف الآلات الإيقاعية التقليدية والشعبية، كالطعاريج السواقية المركونة في زاوية من البيت، والدفوف، ولمقص، والنواقص، فضلا عن آلة الصينية التي يعتمد عليها في رفع ايقاع الميزان البدوي، كل هذه الآلات محفوظة بعناية في انتظار فرصة فرح أو ممارسة طقس من عادات المجتمع أو مناسبة دينية ووطنية، أو حفل عائلي لإستعادة لحظات غناء المرددات النسائية. (خليوني مع ولادي خليوني آآهه/ حتى يكبرو، ويكافيو ليا عذابي آآهه).

إن مواضيع أغاني المرددات النسائية هي فعلا نتاج عمل مشترك بين الأمهات، نساء القبيلة والدوار، مدحن فيها فحولة وشجاعة أزواجهن، وجمال أبنائهن، (طويل وعالي حينت دكالي/ دراعو شمعة/ حاجبو هلالي/ نيفو منكاد/ عينو كحلة/ عريش النعناع...) وتكلمن فيها عن صبرهن، وترافعن من خلالها عن جمالهن وإتقانهن لأشغالهن المنزلية، وسردن محنهن خلال سهرهن الليالي من أجل فلذات أكبادهن. (آآمدى بينا آهه... كون جانا ليوم، آه.... يدينا يحوص بينا آهه)، لقد كانت الأم تغني عن ابنها وتصف جمال عينيه وقامته وشخصيته، وتغني عن زوجها الكريم والشجاع، وتغني عن جدها الفارس وعن خالها الفلاح، وعن موسم المنتوج الفلاحي الجيد، وعن جود وكرم القبيلة .

 

 

ـ نموذج "مردادات" الأعراس والحناء

من طقوس عرس الختان أو الزواج تستعد أم الطفل/ الشاب أياما قبل يوم الحفل، وتقوم بجولة لإخبار كل نساء الدوار عن موعد العرس، حيث تجمع الأم لمة نساء الدوار في عملية تشاركية لتنقية القمح من الشوائب، ويعبرن عن مشاطرتهن لها، أفراحها وسعادتها، بالفعل والقول، فيتحلقن حول كمية الحبوب وسط بهو الخيمة في طقس احتفالي، يبرز قيمة طقوس و تقاليد وعادات نساء البادية... إن غرس نبات أغصان النعناع الخضراء فوق كمية حبوب القمح، بجانب بيض الدجاج، ووضع لوحة الجامع/ لمسيد الخاصة بحفظ القرآن التي ترمز للرابط الروحي، فضلا عن إناء الحناء ، كلها إيحاءات تيمنا بالمقدس والفحولة والخصوبة والسعادة.

مرددات عرس الختان:

الحجام الله يهديك

را ولدي بين يديك

الحجام ياودي

دوز يديك على ولدي

فرحي يا لالة سعدي يالالة

ختنت وليدي وحيدت اللومة عليا

تعالي يا جارتي باركي ليا

ختنت وليدي وحيدت اللومة عليا

مرددات أثناء تهيئ العروسة في حفل الحناء

ركراكة واهيا كلاعين الضيم

قولو لمي بالسلامة

رانا غادية لداري

غاديا عند حبيبي

أحلي الباب وزيدي

مرددات في بيت العريس

إلا دارها إلا دارها يكد بيها/ إلا دارها كلمتو سماعة كدام الجماعة/ إلا دارها آآآه

جاب الكرفة وكدبيها

جاب لهدية وكد بيها

لعاب الشيخات كد بيها

صراف الورقات كد بيها

إلا دارها إلا دارها يكد بيها/ إلا دارها كلمتو سماع كدام الجماعة/ إلا دارها آآآه

 

 

ـ لما غنت المرأة/ الأم، "مرددات" في مدح مناقب وأوصاف وخصال الرجل

لقد برعت المرأة البدوية في صناعة فن القول لتجزية الوقت ورتابة الحياة، ومواجهة شقائها ومحنتها، وأتعابها التي لا تنتهي في دورة طبيعة الحياة الصعبة، ورددت أشعارا بسيطة تداولتها الألسن، وتغنت بها الحناجر، في كل الأمكنة والأزمنة والفضاءات والمناسبات، ومن تم نقلت "المرددات" الغنائية النسائية فن الحكاية، والرواية الشفاهية بأفراحها وأحزانها، كما عكست قيم العشق، والأخلاق والشجاعة والإيثار والكرم والنبل والشهامة... من هنا تميز كل مجال جغرافي بخصوصيته التراثية على مستوى "المرددات" النسائية. ففي أغلب المناسبات الحميمية الخاصة بين نساء الدوار، تفتح الطباعة/ المغنية الرئيسية بصوتها الحاد والجهوري أغنيتها المحبوبة التي ستعكس من خلالها موضوع شخصية "الرجل/ الزوج/ الحبيب"، بلازمة: "وايلي هاااهه.... شدو خوكم راه زهواني"، وتترك الفرصة للمجموعة النسائية كي تعيد بعدها هذه اللازمة، حيث تستفرد "الطباعة" باستحضار "حبات" (فراش وغطا) تليق باللحظة والحضور.

ـ وايلي هاااهه....شدو خوكم راه زهواني

تاع الكلمة، راه زهواني/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

شوفو خويا عاجبو عودو/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

شرج العود لمكاحل جوج/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

جاب وحيدا على ظهر العود/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

عزيز أوغالي راه زهواني/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

وليد بلادي راه دكالي/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

حل الصالة وقال لي دخلي/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

جاب الصينية ولبرارد جوج/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

جاب الصينية وقال لي كبي/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

حط اللوز وقال لي كولي/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

الزين الصافي راه زهواني/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

داك العبدي راه زهواني/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

دايز فرادي راه زهواني/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

دراعو شمعة راه زهواني/ وايلي هاااهه... شدو خوكم راه زهواني

 

ـ موضوع الاستقرار الأسري نموذج اجتماعي،  تناولته المرددات الغنائية

ساهمت "المرددات" النسائية في تمرير رسائل الوقار والعفة والحياء والحشمة، داخل الأسرة المغربية، وتصدت لكل أشكال المجون والتفسخ الأخلاقي ، وأوصت من خلال أشعارها ونظمها، المرأة/ المتزوجة أن تحافظ على عش الزوجية، وتصون حرمة البيت، وتسهر على تربية الأبناء، وأن تساعد الزوج على مقاومة كل مشاكل الحياة وتساهم في بناء الاستقرار الأسري اجتماعيا وعاطفيا واقتصاديا.

(وديري علاش ترجعي أيا الواقفة في الباب .... أديري علاش ترجعي أيا الغادرة بالراجل)

أنت دخلي وحشمي، أيا الواقفة في الباب .... وديري علاش ترجعي أيا الواقفة في الباب.

أديري دار، وبركي، أيا الواقفة في الباب .... وديري علاش ترجعي أيا الواقفة في الباب.

أديري ولاد، وحشمي، أيا الواقفة في الباب ... وديري علاش ترجعي أيا الواقفة في الباب.

أديري بلاد، وحرثي، أيا الواقفة في الباب ..... وديري علاش ترجعي أيا الواقفة في الباب.

وديري علاش ترجعي أيا الواقفة في الباب .... أديري علاش ترجعي أيا الغادرة بالراجل.(

كذلك صاغت بعض "المرددات النسائية" شكوى الزوجة وتطلعها للرجوع لبيت الزوجية بعد حصول مشاكل مع الزوج، حيث تستغل فرصة المناسبت الاحتفالية للإعلان عن مشكلتها أمام الجماعة/ لمة النساء.

(الله يا الرجالة/ راني بقيت هجالة/ مولى خايمتي، بغيت نولي ليه)

فترد عليها النساء بالتزام شرف بالقول:

(نوضي صبري يا العمالة/ دابة يحن مولانة/ وتجيك الجماعة، وترضك ليه)

لكن لما يشتد الخصام، وتفشل لجنة الصلح والتدخل بالخيط الأبيض، وتطول مدة الفراق ويستعصي حل المشاكل القائمة بين الزوجين تخاطب الأم/ "العدوزة"، معاتبة ابنها / الزوج بالقول :

(نوض تكلم للقاضي راه مراتك داعياك،

بغات فلوس الدراري شفت الخلعة شداك،

كون شاورتيني ياوليدي نجيب ليك بنت لحلال

درتي ريك يا وليدي بقيتي ضحكة للرجال).