دافع بقوة وشراسة العديد من الباحثين والإعلاميين والسياسيين نهاية الثمانينيات وخلال التسعينيات من القرن الماضي، عن العولمة باعتبارها الآلية الجديدة التي ستخلص الناس في شمال العالم وجنوبه من الفقر والجهل والصراعات الايديولوجية التي سادت فترة الحرب الباردة.
لكن الواقع الملموس، يؤكد اليوم أنه بقدر ما للعولمة من إيجابيات لا يمكن إنكارها على مستويات التطور التكنولوجي والاتصالات والمعلومات، بقدر ما تم إفراغ الإنسان في العالم من إنسانيته.
إن العولمة ليست وليدة الثمانينيات من القرن الماضي، فقد مرت بمراحل عدة أهمها: مرحلة تطور الرأسمالية التجارية، مرحلة الرأسمالية الصناعية التي ظهرت في القرنين التاسع عشر والعشرين، الرأسمالية المالية (1850-1914) والرأسمالية بعد الصناعية أو الثورة التكنولوجية.
وفي هذه المرحلة الأخيرة من تطور الرأسمالية التي بدأت تترسخ أكثر فأكثر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تندرج العولمة.والجديد في هذه المرحلة أن الشركات المتعددة الجنسية هي التي أصبحت الفاعل الرئيسي في الاقتصاد العالمي. وهو ما دفع العديد من المختصين في الاقتصاد والسياسة والقانون خاصة بعد سقوط حائط برلين إلى طرح تساؤلات من قبيل: أي دور للدولة في زمن العولمة؟ هل انتهى دور الدولة؟ هل تغير دور الدولة؟....
وأصبحنا منذ بداية الحديث عن نهاية الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، إزاء ظاهرة شركات جبارة تتعدى الجنسيات وتعبر القوميات وتعمل على تكييف السياسات العمومية داخل الدول في العالم - وخاصة في دول العالم الثالث - مع احتياجاتها ومع تصوراتها لما ينبغي أن تكون عليه السوق العالمية التي نبأ بها الاقتصاديون الليبراليون.
وبما أن العولمة هي الوليد الشرعي لثورة المعلومات حيث الانتشار السريع للمعلومات وسهولة الحصول عليها، إضافة إلى نشر ثقافة كونية عبر انتقال الأفكار والترويج لثقافة عالمية تقود إلى زيادة معدلات التجانس بين مختلف التجمعات كما ذهب إلى ذلك " توماس فريدمان " ، فإن البعض في وطننا العربي تكونت لديه رؤية مفادها أن العولمة مرحلة لولوج أحد أطوار التقدم الحضاري.فساد الترويج لمفهوم العولمة أو التوسيع الذي يفيد بانضمام الكثيرين لأسرة الديمقراطية من خلال تبني قيم السوق، وتبني بعض الجوانب الإيجابية مثل كونية مبادئ حقوق الإنسان، والاعتراف بالآخر، واحترام الخصوصيات الثقافية، وتحقيق السلام في ربوع المعمورة، والتخلي عن السيطرة وإملاء الشروط على الشعوب الضعيفة...
لكن ما الذي وقع حقيقة في العالم وهو يسير على رجل واحدة في غياب الأقطاب المنافسة دوليا؟
للإجابة على هذا السؤال، يكفي أن نتأمل في ما وقع منذ بداية التسعينيات من القرن العشرين، حروب مدمرة في مختلف بقاع العالم بدءا بالعراق، مشروع الشرق أوسطية الذي يبدو أنه تم إحياؤه وهو يهدف إلى تفتيت الدول العربية الإسلامية بهذه المنطقة، الصراعات الطائفية داخل البلد العربي الواحد، قتل الأبرياء في العديد من مناطق العالمين الإسلامي والغربي، انتشار ثقافة استهلاك المأكولات والموسيقى الساقطة والدراجات النارية.... وانتشار التطرف شمالا وجنوبا.
التطرف، لا وطن له. فهو نتيجة حتمية لتشيء الإنسان( la chosification de l’ Homme) في زمن العولمة. فانتصرت قيم الوصولية والانتهازية والربحية التي يدعو لها أنصار اقتصاد السوق في العالم. وتم تهميش الفلسفة والتاريخ في العديد من الأنظمة التعليمية ....إفراغ ثم إفراغ ثم إفراغ للإنسان من إنسانيته.
وهنا نتوقف بعض الوقت مع عباس برادة السني وهو خبير دولي في الدراسات الدولية للبلدان النامية وخبر الديبلوماسية الدولية من خلال الممارسة الميدانية، فقد خلص في دراسة له حول العولمة الاقتصادية وهو يتطرق إلى جذورها الاستعمارية، إلى أنه مقارنة بين الموجة الأولى للعولمة التي كانت توصف بأوربة العالم (Européanisation du monde) خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث كانت أوربا مركز العالم،وبين الموجة الثانية للعولمة التي تسود حاليا: كلاهما شموليتان واندماجيتان، إلا أن الموجة الثانية (الراهنة) ترمي منذ بدايتها إلى تغيير المعايير والمفاهيم التي كان متعارفا عليها في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وفرض المفاهيم الجديدة لصناع العولمة، ولو أدى ذلك إلى ركوب مطايا الحروب للوصول إلى أهدافهم وطموحات مقاولاتهم واحتكاراتهم...
وماذا عنا نحن العرب؟
علينا أن نرجع إلى صوابنا، فالعولمة لن تنتهي في القريب المنظور. والصواب معناه التصالح مع ذواتنا من خلال التكثلات الاقتصادية القوية، ومن خلال إعادة بناء تعليمنا على قيم التفكير، والنقد، والتسامح، والتعاون،ونبذ منطق الإقصاء. ويبقى المفتاح لهذه الأوراش هو الديمقراطية والمساواة بين الجنسين والعدالة الاجتماعية.
إن البترول، كان ومازال، يشكل عاملا حاسما في العلاقات الدولية، لكن ينبغي ترشيد استغلاله، فهو ثروة قابلة للنفاذ. وما أحوجنا إلى الاستثمارات العربية داخل الوطن العربي.
وقد أثبت الإنسان العربي كفاءاته في الدول المتقدمة التي استقطبته، وتستقطب المزيد من الرأسمال البشري العربي بكل ما أوتيت من قوة.
خلاصة القول، لم تفض العولمة في شقها القيمي (son coté de valeurs) إلا إلى إفراغ الإنسان من إنسانيته. والأمر يدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى،لوقاية الإنسان العربي المسلم إلى عقلنة تعليمنا،وتحرير إعلامنا، وفتح الفضاءات الحرة للرياضة والمسرح والشعر والرواية وتبادل الرأي وحرية التعبير...الاستثمار في الإنسان.
إنها المرتكزات الحقيقية للتنمية البشرية في الوطن العربي، إن نحن نريد فعلا أن نصحح مسارنا ويكون لنا مكان آمن، ولو نسبيا، في زمن العولمة الجارفة.
أحمد بلمختار منيرة/ إعلامي وباحث