محمد بوبكري : مخاطر الخطاب التربوي لجماعات الإرهاب التكفيري

محمد بوبكري : مخاطر الخطاب التربوي لجماعات الإرهاب التكفيري محمد بوبكري
 

عندما يتأمل المرء في الخطاب التربوي لجماعات الإسلام السياسي، يكتشف أنه يعمل على تغييب العقل بتكريس طغيان فقه القرون الوسطى، وخاصة مدارسه الأكثر تعصبا: الحنبلية. إنه يكفر كل مسلم يجرؤ على مخالفة هذه الجماعات في فهمها لكتاب الله أو حتى لبعض أحكامه. وهو لا يتردد في تكفيره والإعلان بأنه مرتد كافر مهدور الدم. وهذا ما سيقود إلى تربية الأجيال الصاعدة على تكفير الفلسفة والعلوم الإنسانية ونظريات ومناهج العلوم ونتائجها... كما أنه يرسخ الانغلاق والجمود الذهني في شعور الناشئة ولاشعورها بتلقينها رفض الحوار مع الآخر وجعلها تعتقد دواما في امتلاكها للحقيقة المطلقة وغيرها على خطأ، يجب نبذه ورفضه، وحتى هدر دمه.

وهذا ما جعل هذه الجماعات تسعى دوما إلى غسل أدمغة الأجيال الصاعدة، جيلاً بعد جيل، بـ "الجهاد إلى يوم قيام الساعة" وتبرير إبقاء المرأة قاصرة أبديا وغير المسلم كافراً "لا يجوز التشبه به" و"العلم مؤامرة يهودية على الإسلام"... كما أنها تحرم الفنون وكل ما هو جميل في الحياة...

وهكذا، ترمي جماعات الإسلام التكفيري إلى إقامة تعليم ديني مهدد للحياة العقلية والنفسية والاجتماعية... فعلى الصعيد العقلي، تقدم لغة هذه الجماعات نماذج غريبة, حيث يصاب التلميذ الذي يدرس العلوم والرياضيات والإنسانيات... بالحيرة أمام لغة هؤلاء التي تحمل مفاهيم تتجاوز نطاق المحسوس وأمور الحياة اليومية. فبدل توضيح الفوارق بين الاستعمال الديني للغة واستعمالاتها في مجالات أخرى، تعمل هذه الجماعات على القضاء على روح التساؤل لدى التلاميذ، بإلزامهم بحفظ المادة الدراسية كما هي، إذ تقدمها لهم بكونها غير قابلة للإدراك من قبل البشر لأنها كلام الله أو كلام مؤسساتها التي تتصرف باسمه. كما أنها تواجه تساؤلات التلميذ المتسمة بالذكاء والعمق والبراءة، بردود لاذعة، مثل: "إن ما تقوله كفر"، أو "أنت شرير وشيطان"... يفضي هذا الخطاب الإرهابي إلى احتقار التلميذ لنفسه، أو إحساسه بالقصور العقلي، أو بالذنب، أو بالاحتقار، أو بالدونية... وهذا ما ينجم عنه التطويع النفسي للتلميذ والطالب ليتصرفا وفق ما ينتظره مروضوهما منهما بتحويلهما إلى ببغاء يردد ما يقال له.

تبعا لذلك، فإن هذه الجماعات تلقن الناشئة الحقيقة المطلقة التي هي الأرضية التي ينمو فيها التعصب والإرهاب. كما أنها تحارب العقل بالنقل وتستغل كل الغرائز البدائية والعدوانية وغريزة الموت والخوف من الجديد لتكفير الحداثة وقيمها وغرائز الحياة الطبيعية...

ويؤدي تحفيظ النصوص الدينية، دون تساؤل وتحليل وتعليل وفهم...، إلى تعطيل التفكير الشخصي، إذ يستبعد الحفظ الفحص النقدي لصالح الإيمان الأعمى واليقين المطلق. وهذا ما يقتل روح النقد والخيال والإبداع، ويشجع على التنميط ورفض التجديد والتنوع والاختلاف ونمو العقل وتفتحه... وهكذا، يجعل هذا التعليم الأجيال الصاعدة تتشرب عدم جدارة العقل بالثقة، وأن الثبات لا التطور هو سنة الله في خلقه.

تسيء هذه الجماعات إلى الدين والعقل في آن، لأنها ترسخ في ذهن التلاميذ وجود تناقضات كبيرة بين الدين والعلم والفن... فهي تستخف بإنجازات العقل البشري لأنها تعتقد أنها تعارض الدين. ويكشف هذا الموقف، أساسا، عجزها عن فهم الإيمان أو الدين في معناه الحقيقي. فككل نشاط إنساني آخر، للإيمان الديني مجاله ومنطقه الخاصين... ويقتضي المنطق السليم فهم كل شيء في ذاته، وفِي علاقته مع الأشياء الأخرى، وربطه بمجاله....

ومن ناحية ثانية، يشكل التعليم الديني كما تتصوره جماعات الإسلام السياسي خطرا على الصعيد النفسي للتلميذ. ويكمن ذلك في تركيزه على المادة الدراسية، لا على المتلقي. فهناك خطاب يرى دعاته أنه ذو قيمة فائقة، وأن على التلاميذ أن يرددوه دون تمكينهم من الشروط التدريسية التي تنمي قدراتهم الاستيعابية وتجعلهم يفهمون معانيه ويرغبون في تعلٍّمه...

وإذا كان هدف التربية هو بناء الشخصية في أبعادها المتعددة، فينبغي النظر إلى المادة المُدَرَّسة بكونها وسائل وليست غايات، وإلى الشخصية الإنسانية بكونها غاية التربية. لكن مفهوم التعليم عند جماعات الإسلام السياسي هو مجرد تلقين خطاب جاهز لا يكون له إلا أثر سلبي في تكوين الشخصية. وإذا علمنا أن هدف الدين والتربية هو بناء الشخصية، أدركنا أن تصور هذه الجماعات للتربية الإسلامية يخون قضية الدين والتربية في آن، لأنه يفرض المادة الدراسية على حساب الفرد، حيث لا يعير أدنى اهتمام لرغبة التلميذ فيها ومقدرته على استيعابها كما تقدم له.

إننا لا نعترض فقط على الطرائق البيداغوجية لهذه الجماعات ونرغب في طرائق أخرى تركز أولا على المتعلم، بل إننا نعترض على التربية الدينية كما تمارسها هذه الجماعات من حيث غايتها ومحتواها وطرائقها، وليس من حيث طريقتها وحدها.

يجب الحذر من تصور هذه الجماعات للتعليم الديني عبر تطوير تعليم يؤدي بالتلاميذ عبر مختلف مراحله إلى الإجابة على أسئلة من النوع التالي: ما هو الدين؟ ما هو الإيمان؟ لماذا هناك أديان كثيرة؟ هل هناك مخاطر للتعدد الديني في المجتمع؟ وكيف نتجنبها؟ كيف تتحقق وحدة اجتماعية رغم التعدد الديني والعقدي والفكري...؟ ما علاقة كل من العلم والفن والأخلاق... بالدين؟ وهل يمكن أن ينشأ تناقض حقيقي بين مختلف هذه الأنشطة وبين الدين؟ تمكن الإجابة العقلانية عن هذه الأسئلة التلاميذ من اكتساب الأسس النفسية والعقلية لفهم دينهم ودين آبائهم والديانات الأخرى، واحترامها... (أديب صعب).

ومن ناحية ثالثة، يشكل التصور التعليمي لجماعات الإسلام السياسي خطرا على المجتمع. فهو يسعى إلى إثارة الناس بعضهم على بعض وضرب بعضهم ببعض، حيث ينمي الوعي الطائفي لدى الناشئة عبر التمييز بين أفراد المجتمع على أساس طائفي. وهو تمييز لا يخدم قضية الدين ويقوض المجتمع ويهدمه...

إن إقامة شرخ داخل الفصل الدراسي هو في الآن نفسه سبب ونتيجة لإقامة شرخ أو انقسام داخل المجتمع. لا أريد أن يفهم من كلامي هذا أنني ضد التعددية داخل المجتمع، بل توجد في المجتمع أنواع منها لا يمكن القضاء عليها. وسيبقى المجتمع على الأقل متعددا من حيث تعدد أفراده. لكن هناك حاجة ملحة لتحقيق الوحدة في التعدد، وبدونها لا يمكن للمجتمع أن ينشأ ويستمر ويتطور. فلابد من الوحدة في التعدد. وبرأيي، على مؤسسات الدولة التربوية وعلى رأسها المدرسة الاضطلاع بإنجاز هذا النوع من الوحدة.