من الممكن القول إن الأداء السياسي في المغرب اصبح يوما بعد آخر يأخذ أبعادا خطرة، بحيث يستطيع المتتبع تشخيص الحالة الشاذة التي تمر بها العملية السياسية للبلد؛ ذلك لأن مؤشر الأداء السياسي العام لجميع الأحزاب والتيارات والتنظيمات الفاعلة فقد نسبة كبيرة من قيمته فاصبح من الصعب تسويقه، فاستشرت الأنا الحزبية وتعاظمت معها الأنا الشخصية، فانقلبت حركات سياسية بدرجة مئوية كبيرة عن قناعاتها، مبادئها سعيا وراء مكاسب وفتات ما يجود به الماسكون بخيوط اللعبة السياسية التي لا تعرف الثبات وتغير جلدها باستمرار. مما يدفع بالكثيرين إلى أخذ تموقعات جديدة متى سنحت الظروف بذلك.
إنها حقيقة الأشياء التي تسير عكس حساسية الظرف ودقة المرحلة ففي الوقت الذي أصبح فيه المجتمع المغربي أكثر وعيا بمشاكله؛ وبالتالي البحث عن الطرق والوسائل لمواجهتها. نجد النخب السياسية، تمارس الخداع والتدليس، والتقلب في المواقف من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، والعكس صحيح تمامًا، بل وعقد الصفقات حتى مع المختلفين معهم أيديولوجيا، لا لشيء إلا لتحقيق المصالح.. إنه النفاق السياسي الذي ضرب بموضوع القيم الاخلاقية التي تعتبر أساس تقدم المجتمعات.. وما أحوجنا اليوم إلى اهتمام أكبر بالقيم والمبادئ في مجال السياسة.
فالمجتمع المغربي الذي شهد في العقدين الاخيرين مجموعة من التغيرات السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، وغيرها، سواء من حيث اتجاهاتها أو نتائجها، والتي قد أثرت على النسق القيمي الذي ميز الإنسان المغربي لقرون خلت. وتمثلت هذه التغيرات في فقدان بعض سياسيينا ومنذ زمان إحساسهم بـالواجب؛ وفي بعض الأحيان يظهر لك حتى عماهم السافر أمام المشاكل الحقيقية لمجتمعهم، مما جعلهم غير حساسين لاحتياجات الوطن والمواطن باتخاذ قرارات تخرج عن المألوف تحت يافطة المرونة والواقعية السياسية التي تستدعيها المرحلة، بل هدفهم التضليل. وهنا تظهر المواقف النموذجية للأشخاص وقناعاتهم بعيدا عن الانتماءات. فالتواجد داخل إطار ما لا يعني بالضرورة أن ترى الخطأ فتسكت عنه أو تبحث له عن مسوغات لأنه صادر عن رئيس الحزب أو عن فلان، وإلا فإنك تسبغ عليهم طابع القداسة والعصمة. إنه للأسف مشهد أصبحنا نعيشه في مجتمعنا.. فكيف يعقل أن يطلب من المواطن الصبر لإجراء إصلاحات هيكلية تمس قدرته الشرائية في وقت ينعم فيه البعض بمعاشات خيالية. أين هو شعار محاربة الريع واي عدالة اجتماعية هذه. بل أين نواب الأمة اصحاب الضمائر؟
هنا استحضر نموذجين اثنين من المجتمع الغربي: الأول من إيطاليا التي يحكمها اليمين والشعبوية، والتي قررت إغلاق موانئها في وجه سفن إغاثة المهاجرين في عرض المتوسط، فبادر مجموعة من البرلمانيين ومن تلاوين حزبية مختلفة، وخلافا لمواقف بعض أحزابهم، اللحاق بهذه السفن في أعالي البحر تضامنا معهم، وضغطا على حكومتهم لاستقبالهم. إن ما حرك هؤلاء هو الضمير الإنساني والوضوح والانسجام الذاتي للإنسان مع قيمه ومواقفه.. وهو نفس الدافع الذي حرك موالين لـ "تريزا ماي" التصويت ضد مشروع اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وكاد أن يطيح بحكومتها، لأنهم رأوا فيه ضررا يلحق ببلدهم.
عندنا يتفق الجميع على عطل ما، كما هو حال المحروقات، لكن عندما يمتلك البعض منهم الشجاعة ويقترحون استرجاع ما خلصت اليه اللجنة البرلمانية، تنكشف اللعبة السياسية، ويصبح فيها البعض عبدا للمصلحة وللحزب وليس عبدا لله. ونفس السيناريو تابعناه مع مقترح نائبي فدرالية اليسار بتخصيص جزء من الضرائب للاستثمار في العنصر البشري عبر دعم قطاع التعليم والذي انتهى إلى ما انتهى إليه...
إن هذه المقارنة البسيطة تصيب الإنسان بالذهول تجاه سياسيينا، الذين جعلوا من تواجدهم داخل المؤسسات وسيلة لإشباع حاجياتهم، فتراهم يلهثون وراء السلطة والجلوس في المقاعد الأمامية متنكرين وراء الكلام المعسول والوعود المثالية التي تبقى بلا قيمة أمام المواقف المجسدة عمليا، والتي تكشف حقيقتهم ونفاقهم السياسي. فالقيم الإنسانية ليست مفاهيم نظرية مثالية، ولكنها سلوك يومي يرافق الإنسان الصادق والنزيه ومن هنا يمكن أن نتساءل: ما جدوى أن يقول الإنسان الشيء ويفعل نقيضه؟ الجواب في اعتقادي ربما يؤصله هؤلاء من خلال ما كان يجادل به تشارلز موريس دوناي في منتصف القرن التاسع عشر بسخرية مفادها، أنه "لا يوجد مجتمع ممكن، إذا لم يكن مبنياً على النفاق". وأعتقد مع الأسف العميق أن هذا القول المأثور قد تخطى حدود الكوميديا، فوجد مكانا له في الواقع السياسي المغربي الذي يقر الجميع بأنه قد دخل منعطفات معقدة، لم يستطع معها من سحق الإنسان بلسان الدين وصدع رؤوسنا بمحاربة الفساد أن يجد لنفسه توازنا بين العاطفة والعقل، فأصبحت مسألة الثبات على المواقف والتشبث بالقيم لهذا هذا النوع من السياسيين مجرد قنطرة عبور .
إن حدا أدنى من الموضوعية يقتضي العودة إلى الذات، ومساءلة النفس حول أسباب فقدان الثقة في السياسة والسياسيين.
وأخيرا أقول وقوله تعالى هو الحق "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ".
- عبد الله جبار، باحث في قضايا الهجرة، إيطاليا