سعيد جعفر: الرأسمال الاجتماعي.. "مول الحانوت" قبل "بيم" (2)

سعيد جعفر: الرأسمال الاجتماعي.. "مول الحانوت" قبل "بيم" (2) سعيد جعفر

يغفل كثيرون بما فيهم فاعلون سياسيون يتصدون لتسيير شؤون الناس عن أهمية الرأسمال الرمزي الذي يتوفر للمملكة، ورغم أن الدولة في أعلى مستوياتها تقدر جيدا هذا الرأسمال وتصيغه في الفلسفة العامة لوثيقتها الدستورية خصوصا في مستوى الهوية والشرعيات والاختيارات السياسية، فإن التنفيذ تعترضه هنات شديدة تجعل هذا الرأسمال إما معطلا أو يتبدد ببطء. بل إن فاعلين سياسيين لقصور واضح في المرجعية والرؤية لاعتبارات إيديولوجية أساسا يبددون هذا الرأسمال أو يهمشونه في وضع السياسات العامة.

أن يكون عمر جماعة بشرية أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وأن تتعايش فيها أعراق مختلفة أمازيغية وعربية ويهودية ومسيحية وحسانية وإفريقية وأندلسية، وأن تنشأ روابط اجتماعية لآلاف السنين، يعني أن هذا البلد يتوفر اليوم على تقاليد اجتماعية وقدرات نفسية وثقافية كبيرة لتدبير الاختلاف وللتعايش وإنتاج القيم. والحال أن هذا الاستقرار والتميز الذي يميز المملكة يعود إلى هذا التراكم التاريخي الإيجابي والذي ينعكس في قدرة المغربي وذكائه في قياس مقدرات الاقتصاد و مقدرات السلم والأمن ومقدرات الدولة على الاستجابة.

ثمة اتفاق على أن المغرب خرج من دون خسارة فعلية في ما سمي بالربيع العربي، ورغم أن جزء من هذا الربح الجماعي يعود إلى استباقية الملك بمبادرته إلى إجراءات دستورية وسياسية واجتماعية، فإن إسهام التراكمات التاريخية والاجتماعية كان حاضرا بقوة.

في خضم احتجاجات 20 فبراير كنت أعددت استمارة وزعتها على عدد من الفئات، تضمنت سؤالا جوهريا: هل يحتاج المغرب احتجاجات؟ لماذا؟ وكيف؟

كانت الإجابات على الشكل التالي:

1ـ نعم نحتاج لأن الاحتجاج حق وذلك باحترام القانون.

2 ـ نحتج بما يحقق مطالبنا دون أن نضر بأمن البلاد.

3 ـ نحتج بسلم حتى لا تتراجع مكتسباتنا في حقوق الإنسان والحقوق السياسية والاقتصادية والمدنية

4 ـ لسنا في حاجة مخافة أن يتحول المغرب إلى شبيه بليبيا وسوريا وغيرها.

5 ـ لن نحتج لأن الأمر يتعلق بمؤامرة خارجية والفتنة أشد من القتل.

(الأجوبة الثلاثة الأولى صدرت في الغالب عن فئات متعلمة أو واعية وازنت بين الحق والواجب، المطالب والالتزامات. والجوابان الرابع والخامس صادران عن فئات متخوفة على ما سمته "نعمة" الاستقرار).

إن المهم ليست الأجوبة في ذاتها ولكن الخلفية التي حكمتها، والتي عكستها طبيعة الاحتجاجات التي قام بها المحتجون. إذ ظهر أن هؤلاء المحتجين كانوا مطوقين بوعي كبير بما يتوفر لهم من استقرار، ورغم أن تمثلهم للاستقرار قصدوا به في الغالب عدم وجود حرب بالمغرب، والمستويات الطبيعية للجريمة، وتوفر الأسواق على السلع والمنتوجات وتوفر الدواء مع إيمانهم بضعف بنيات الاستقبال الصحي وقلة فرص الشغل.

ـ ما الذي جعل هؤلاء المحتجين وغيرهم ممن لم يحتجوا في 2011 يربطون الاحتجاج بالاستقرار؟

عندما نذهب لننام بالليل في مدينة كوادي زم تتشكل من حوالي 120.000 نسمة أو حاضرة صغيرة كتيط مليل تتكون من حوالي 30.000 نسمة، ولا تتعرض آلاف المحلات التجارية والمقاهي والمنازل لأي عمليات نهب، ولحالات سرقة طبيعية، ونحن نعلم أن عدد رجال الأمن لا يتجاوز رجل أمن واحد لكل 5000 مواطن، فهذا يعني أن هناك حالة استقرار قائمة ربما تعود إلى أن هناك اكتفاء ماديا أو حضورا للقانون، أو وعيا اجتماعيا وثقافيا لذى الأفراد بحقوقهم وواجباتهم.

من المؤكد إذن أن هؤلاء المستجوبين استحضروا التكلفة المادية للاستقرار قبل أن يستحضروا حجم الأرباح المنتظر من احتجاجات أكبر.

يعرف المغرب أن هناك حس تعايش كبير في المجتمع وأن هناك تضامن كبير بين الأفراد، ولهذا هم لا يراهنون كثيرا على المؤسسات في تأمين السلامة الجسدية والحق في الحياة وغيرها من الحقوق، فقد وضعوا قانونهم في ذلك باختيار حالة من السلم الاجتماعي يعبر عنها المغاربة بصيغ مختلفة دينية وأخلاقية وعقلية واجتماعية وقبلية وعرقية حتى، فآداب الجار، واحترام الكبير، وصلة الرحم، والصدقة، والكلمة الطيبة، و"ندخل سوق راسي"، والبيع والشراء و"دارت" و"تويزة" وغيرها من الطقوس اليومية والعلاقات بين الأفراد أفقيا هي ما تؤسس هذا الاكتفاء الاجتماعي بين الأفراد والذي يكفيهم عن تدخل المؤسسات و القانون.

إن هذه الروابط المختلفة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والدينية التي تجمع بين الأفراد أفقيا بالمغرب في الواقع هي الرأسمال الحقيقي الذي يمكن منه إنتاج الثروات والربح المالي، فهذه التفاعلية المجتمعية والفيزياء الاجتماعية التي تسهر الأمازيغ والعروبيين والأندلسيين والصحراويين والأفارقة، تسهر البيض والسود، الدينيين واللادينيين، هي وحدها الكفيلة بتوفير الشروط المادية والنفسية للشغل والعمل.

وإذا كان ماركس يعتبر الشغل هو بداية الوغي بالطبيعة وتحويلها إلى عناصر مصنوعة، فإننا نعتبر بداية الشغل والعمل والإنتاج هي "إنتاج الأسس النفسية والثقافية والاجتماعية التي تسند العمل"، فنحن لا نتصور شغلا وإنتاجا للثروات مع وجود الأحقاد والبغضاء والتوترات النفسية والاجتماعية.

إن الشغل هو تحرير للإنسان يقول سارتر، فهو ثوري بالضرورة لأنه يحرر العامل المقهور من سلطة نظام العمل، ونحن وإن كنا نؤيد هذا الطرح التحرري فإننا لا نتصور الشغل وانتاج الثروات إلا بحاضر محرر من كل التوترات النفسية والاجتماعية ويتوفر على ما يكفي من الغنى والتضامن والتماسك النفسي والاجتماعي.

إنه في إطار فهمنا للأهمية القصوى للرأسمال اللامادي، والذي تعكسه كل الإنتاجات غير المادية الرمزية التعبيرية و المبادلية والاعتقادية و الدينية والأخلاقية التي أنتجتها الجماعة والأفراد المغاربة منذ آلاف السنين، عكفنا منذ سنوات في مشروع ممتد على درس أهمية الدين والتعبيرات الدينية والاعتقادية في تأمين الاستقرار الاقتصادي والسياسي بل وكنا سباقين إلى طرح مشروع سياحة دينية يكون موضوعها التعبيرات الروحية والتصوف العالم خصوصا، ومازلنا مؤمنين بهذه الفكرة لأنها فكرة لها مزايا كثيرة.

فهذا البلد الذي جرب سكانه كل الأديان السماوية يهودية ومسيحية وإسلاما، ويجرب أفراده كل تجليات الحداثة ليبرالية أو يسارية كانت، يمكنه أن يكون رائدا في سياحة يكون موضوعها هو "الإشباع الروحي" لطالبيه وطالباته.

وبقدر نجاح "مهرجان فاس للموسيقى الروحية" و"ملتقى الزاوية البودشيشية بمداغ"، فإن الدولة يمكن أن تفكر في مشروع سياحي كبير على قاعدة السياحة الروحية والمدخل في تقديرنا هو "جامعة للتصوف العالم".

إن ما يعضد طرحنا هو موجات الإلحاد الكبيرة التي تجتاح العالم والتي لا يمكن تفسيرها إلا على ضوء تطور مسارات الإبداع الإنساني العلمي والتقني والذي بلغ درجة من الإشباع حيث انقلب إلى ضده.

نجد تأكيدات لهذا الوضع ليس فقط في كتابات مفكري وخبراء الاقتصاد الأخضر والإيكولوجيا و السياسيين المدافعين عن البيئة وعن الهويات الوطنية، ولكن وهذا غير مفهوم في توصيات خبراء اقتصاد السوق والتسويق التجاري النيوليبرالي، إذ ينبهون إلى خوف من حالة إشباع كثيفة ومطلقة وصلها المستهلك تجعله زاهدا في كل الماديات وفي كل الروحيات.

لقد وصلنا إلى نقطة اللاعودة يقول إغناسيو راموني. فرحلة عودة طويلة إلى الشرق، إلى الأسطوري والخرافي والصوفي، إلى الطبيعة والمادة الخام، إلى عالم الفرص الإنسانية الضائعة وإلى عالم الأحاسيس والمشاعر العفوية، بدأت تتشكل يقودها آلاف السواح من النساء الشابات والشباب خصوصا الذين اختاروا رحلة عبور طويلة لبلدان إفريقيا وآسيا الشرقية قراها ومعابدها و زواياها، باحثات عن امكانيات للإرتياح النفسي لم تعد متوفرة وسط عالم التقنية والعلم.

صدر قبل سنوات كتاب للكاتب النيجيري سيشوم ينبئ بأن الإله أصبح متمركزا بإفريقيا، وفاز أدباء يابانيون بجائزة نوبل للآداب بكتب تغوص عميقا في العوالم الجديدة للإيمان.

والحال أن هذه الموجات الجديدة للإلحاد في العالم، والتي ستحتاج بدون شك إلى أدوية وعلاجات يمكن أن تشكل سوقا تجارية مربحة يكون "الروحي" هو سلعتها وبضاعتها، وبدون شك فهذه التجارة رائجة فكل القبائل والدول التي ارادت تقوية اقتصادها "خلقت" حجا، خلقت قريش "مكة" وخلق العبرانيون "المبكى" وخلق الصينيون "حج التبت"، ويحج ملايين الناس لمناطق روحية متعددة في العالم.

وليس كذلك من شك فهذا النشاط الروحي سيفيد الأجيال الجديدة من الشباب الذي لا يبدو أن المسجد ومقررات التربية الإسلامية والبرامج الدينية تحقق أمنه الروحي فعلا، سيكون هذا النشاط قادرا على إدماج الشباب ضمن بنية روحية أخلاقية واسعة وحاضنة.

إن بلادنا تملك مقومات دينية وروحية متميزة وهي تساعد اليوم في تأمين الأمن الروحي الذي يسند الاستقرار والشغل وانتاج الثروة، وهذه المقومات متنوعة جدا ضاربة في التاريخ و تعكس السماوي و الوضعي وتعبر عن هوية شعوب مختلفة، ولذا سيكون من الجيد لو أن التفكير في إطار روحي جامع تكون مهمته "تثمين وتقييم وتسعير" هذا الرأسمال الروحي اللامادي والتفكير في صيغة عملية لتحويله إلى منتج اقتصادي.

ما نقوله مؤكد بالمرة وقد أثبتت التجربة الدينية للمملكة المغربية حجم الأرباح السياسية والاقتصادية التي نتجت عن النموذج الديني المغربي.

الإسلام الوسطي المعتدل الذي يتبناه المغرب رسميا هو شريك رسمي في الخطط الدولية ضد الإرهاب والتطرف الديني، وهو شريك رسمي لعدد من دول إفريقيا في إنتاج سياساتها و أدواتها الدينية، وهو مصد داخلي ضد التطرف والتشدد الديني.

ومن دون شك فهذه الأرباح السياسية يمكن تحويلها إلى أرباح اقتصادية ومالية عندما تصل درجة معينة من التركيز سواء من خلال تقديم وتسويق الخبرات أو استثمار خلاصات ونتائج الاستقرار والأمن في إطلاق مشاريع ربحية.

وبدون شك فالحركة التجارية التي تنتج حول المساجد وأوقات صلاتها بالمغرب ضمن ما يعرف بالأوقاف دليل على كيف تحويل الشروط النفسية المحيطة بالمعتقدات والإيمان إلى نشاطات تجارية وسياحية.

تعتبر وزارة الأوقاف من اكثر الوزارات مداخيل، وتتجاوز مداخيل الحج النبوي 20 مليار دولار سنويا، وتساهم الأنشطة ذات الطبيعة الروحية بالهند والصين و دول وشعوب اخرى في مداخيل كبيرة وفي ضمان اكتفاء ذاتي واستقرار اجتماعي وسياسي.

وليس من شك في ان هناك توجه جديد في العالم اليوم يستثمر في المهارات والخبرات ضمن ما يعرف بالذكاء الصناعي، فهذا العمل الضخم الذي تقوم به الدول الكبرى والأموال الضخمة التي تستثمر في تنمية المهارات والمواهب في الرياضات والفنون والصناعات التقليدية والأصيلة وفي حل النزاعات عن طريق الوساطة والتحكيم وإعمال الاعراف هو توجه استثماري ربحي يستعيض عن الثروات المادية بثروات لامادية لن نتخوف من نفادها.

وفي هذا الصدد لا بد من التنويه بتوجه المملكة المغربية لتثمين التعبيرات الغنائية عبر سياسة المهرجانات الغنائية، وهو توجه وإن كان محكوما باعتبارات سياسية في الغالب فهو يمكن تركيزه ليتحول إلى اعتبارات وأهداف اقتصادية ومالية.

إن صناعة سينمائية وغنائية تركز على "تدويل" التراث اللامادي المغربي عادات وتقاليد وخصوصيات ومرويات وطقوس وأهازيج ولباس هي الخطوة الضرورية لتثمين الرأسمال اللامادي وتحويله إلى مال ونشاط تجاري.

وأظن ان تجربة السينما المصرية والسورية ولاحقا التركية يمكن أن تساعد في فهم هذه الخطوة.