عبد اللطيف برادة:مصير الإبداع في الوطن العربي

عبد اللطيف برادة:مصير الإبداع في الوطن العربي عبد اللطيف برادة
اجتهدَتْ منذ أمد طويل من أجل الاطلاع على العديدُ من المدارس النفسية والأبحاث العلمية من اجل سبر أغوار عالم ألإبداع فوجدت أن كل فريق كان يتخذ توجهه في بحوته حسب أدواته المنهجية وحسب التراكم المعرفي لديه. فوجدت عندها بأن المدارس ألنفسية والتحليل النفسي والفلسفة كانت هي السّباقة إلى هذا الميدان عبر تحليل الذات " المبدعة ،والبحث عن الدوافع والتفسيرات الاجتماعية التي تدفع بالفرد إلى الخلق أو الإبداع ، وهكذا ارتكازا على بعض التجارب والعينات المَعملية التي اختلفت في الحكم على ظاهرة الإبداع واتجاهاتها تم اعتبار أن للإبداع شروطا مميزة جدا لا يمكن للتجربة العلمية أن تلمّ بها ولا أن تحتويها ولا يمكن للشروط النفسية المسبقة أو المعدّلة أن تفضي إلى ألإبداع بالمعنى الحرّ ، ألخالص الذي يفسر على أنه سلوكُ خلقٍ فرداني ، خالي من أي شرط مسبق.
وهكذا، نجد بأن الاعتراف الابتدائي لإخلاء السلوك الإبداعي من الشرط ألمسبق أصبح من الكلاسيكيات السيكولوجية اليوم كمسلّمة فُصل في آمرها نظرا لما أصبح يتمتّع به الإنسان الحديث من حرية في ألتعبير وحقوق مدنيه وتمثيل قانوني يتيح للفنان بأن يمرّن سلوكه الإبداعي بما يتلاءم وضروريات ألإبداع بدل تمرين ذلك السلوك على الرضوخ لضروريات الحياة على اختلاف أنواعها : من سياسية واجتماعية وأيديولوجية بوجه عام
طبعا سيختلف هذا المنحى في الدول التي لم تحقق هذا المكسب الإنساني ألرفيع تخليص السلوك الإبداعي من الشرط المسبق. مما يضعنا في ديناميكا مجابهة عنيفة نوعا ما داخل هذا الحيّز أو الفضاء الحياتي ألعسير ويجرُّنا حتما، إلى الاعتراف المسبق بالاغتراب ألابتدائي بين نتائج النظريات العلمية التي عالجت ظاهرة الإبداع من جهة، والاستعدادات الاجتماعية والمؤسساتية الخاصة بذلك ألحيز وما تسمح به من قوانين وسلوكيات مراقِبة للإبداع ونوعية المنتَج الذي يصدر من تلك المراقبة.
لن نغوص كثيرا في التجارب النفسية العديدة التي لم تتوصل إلى أدنى نتائجها الأكاديمية العربية حتى ألساعة بحكم انشغال هذه الجامعات اليوم بالتجربة التقنية النظرية أكثر من انشغالها بالتجربة ألإنسانية مما وضعها في تناقض واختلال في الوعي لم يعد من الجدير التنويه به بعد فَشَل أغلب التجارب العربية الإصلاحية في الإشارة إليه..
فلا بد من التراكم العلمي من أجل تحليل أي ظاهرة مهما كان نوعها ،تحليلا علميا مؤسّسا من اجل تبنى الإبداع كسلوك إنتاجي لنشاط ذهني أو معرفي معين ومجازاة المبدع ومن ثم فان غياب هده الإمكانية بشكل ملحوظ في العالم العربي جعل سلوك ذلك المُبدع غالبا ما يصطدم بقناعة الاغتراب من وجهة وبرغبة التوقُف والرضوخ لضغوطات غياب التاطير من جهة ثانية مما يجعل مجال الإخفاق منطقيا أوسع من مجال النجاح
و من ثم أضحت الكتابة كمجال معين في حقل ألإبداع تعاني في غياب الو رشات التكوينية في هذا المجال، واحتكار الساحة من قبل قوة اقتصادية وسياسية معينة في مجال الطباعة والصحافة التي ساعدت في نشر الزبونية حتى في أرقى ، و دلك بالرغم تأسيس مجتمعات افتراضية لا محدودة ألجنسية ورغم تغيّر فلسفة المقروئية في العالم إلا أنها ظلُّت تصطدم دوما بذلك القتل المتعمّد للتوجيه أو المتابعة للمبدعين لأجل استنباط أعمق طاقاتهم ألكامنة والسّماح لهم باستنهاضها وبثّ روح العيش والعطاء دون نضوب. ودائما نجد بأن مجال القتل هذا لا يخرج عن الإطار الأكاديمي العديم الفائدة والتابع لا يخرج عن الإطار التربوي الذي يغيب فيه التكوين البيداغوجي الحكيم والتأطير المتخصص مع انعدام الرغبة العليا في تموين المشاريع الثقافية الليبيرالية التي تنجح في خلق مواطنين متحررين من دين الرمز أو الإحساس بالدين كما تفعل أغلب حكوماتنا وبالأسف التي تنجح في ذلك بامتياز : أي في خلق المواطن المرعوب و المتزمّت والتابع والمدجّن والذي يغلب عليه حمق الإحساس بالموت والندم ؛ أي بهدم الذات، أكثر مما يغلب عليه عمق الإحساس بالتحرُّر والحقوق
من هنا، لا يمكن لفعل الإبداع أن يستمرّ في أوساط موبوءة كهذه، إلا وفق جدلية الصّراع والوجود التي تخلى عنها الإنسان الحديث بشكل ملحوظ، بعد مأسسة مكاسبه الحقوقية دون رجعة، مما جعل الإبداع يتّجه نحو أهداف أخرى، تهتمّ بنوعية المنتَج أو المنتوج، ورفعته، وسلوك المستهلك، أكثر من اهتمامها بالشروط الابتدائية لبزوغ الإبداع في حدّ ذاته، ثم بالشروط الحياتية التي تسمح لنا بمواصلة ذلك الإبداع. ومن أجل أن يستمر الإبداع بعيدا عن تلك الجدلية المتعِبة ، نجد بأن الكثير من الفلسفات والتجارب التي عرفها الإنسان ألمعاصر قد سلكت مسالك معرفية مختلفة، ربما وجب الإشارة إلى أحدها، كعِضة لا بدّ منها للمسار الثقافي العربي، حتى نعي بأن المكسب الثقافي الذي توصّل إليه الغرب وجعل من ساحة الإبداع مكانا مقدّسا يُسمح فيه للحياة بأن تنشط أكثر مما يُسمح به للموت ولمعاناة للإنسان. ومن بين هذه التجارب الفكرية والعلمية، نجد بأن علم الاجتماع، في تخصّصه "الفني"، هو من أحدث العلوم التي عالجت ظاهرة الفنية والإيداع ورفعت رهان التحدي من أجل خلق مجتمع يحترم الفعل الفني كأساس لهوية ثقافية راقية نعود إليها كمرجع، بدل بعض المعارف التي طوّعت الفنون كي تجعل منها سجونا مفتوحة للذائقة وللاستعداد المشرف للموت، والتي نعود إليها كمقابر لعزيمة الإبداع ولخيبتنا في الوصول إلى أي منتج مميز قد يشارك به الإنسان في هذا الوجود. وما أكبر هذه القابر اليوم في أوطاننا العربية.