عبدالصمد بن شريف: أحلام شاردة في مطلع سنة 2019

عبدالصمد بن شريف: أحلام شاردة في مطلع سنة 2019 عبدالصمد بن شريف، صحافي وكاتب
سنة أخرى تخصم من أعمارنا وتختفي بكل ماحملته من آمال وآلام، ومع حلول كل سنة جديدة، تنشط لغة التمنيات والتهاني، وتتسع مساحة الأمل والحلم. ينسحب العقل من موقعه، ليفسح المجال أمام المشاعر الجياشة والرقيقة، واللغة الرشيقة والشفيفة. يستقيل التفكير الاستراتيجي والعقلاني مؤقتاً، ليحضر تكتيك العلاقات والمجاملات. تنخرط مختلف وسائل الإعلام في عملية جرد لأهم الأحداث فيما يشبه سباقا غير معلن عنه، لاستقطاب القراء والمشاهدين والمستمعين. 
سأشد عن هذا التقليد، وسأصرف النظر عما حدث في الماضي، لأعلن انتسابي إلى أجواء الأمل وآفاق المستقبل، لأن الأحلام مرتبطة بالزمن القادم.
تأسيسا على ذلك نأمل أن تكون سنة 2019 في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، مؤشراً على تحول جوهري وعميق في التصورات والاستراتجيات والأولويات والسياسات، قصد تدشين مرحلة جديدة، وإعلان قطيعة على المستويات كافة، ونقطة انطلاق إلى آفاق النموذج الديمقراطي المنشود، سياسياً واقتصاديا واجتماعياً ودينياً وثقافياً وإعلامياً. وتأسيساً على ذلك، نسمح لأنفسنا أن نحلم بأشكال جديدة للأوطان، أوطان  تتسع لجميع القناعات والحساسيات والمذاهب والأديان والأقليات، أوطان تمنح أسباب الحياة ومحفّزات البناء والعطاء والبقاء، وتمد مواطنيها بمقومات الانتماء إليها، من دون عقد أو مشاعر شيزوفرينية، منتجة للسلبية والعدمية.
نحلم بدول حداثية وعقلانية غير شوفينية ولامتعصبة ومنغلقة، تستند إلى مؤسسات وقوانين ضامنة لحقوق المواطنين وأمنهم، وراعية لمصالحهم، دول مواطنة تنطلق في علاقتها مع مجتمعاتها من منظور جديد، يعيد الاعتبار إلى معنى كلمة التعاقد، ويبدد الصور السلبية التي انتشرت عقوداً، وأفرزت  في المنطقة  دلالات قدحيه انسحبت على الشعوب والأنظمة.
نحلم  بانبعاث القيم العقلانية والعلاقات القائمة على منطق المؤسسات، حيث السيادة للقانون، وحيث لا يجب أن تتحول هذه الاختيارات إلى نزوات موسمية أو لحظات وجدانية بشحنة شعبوية عابرة، غالباً ما تُبسّط وتختزل وترصد للتوظيف السياسوي والديماغوجي، خصوصاً أننا في أمسّ الحاجة إلى طفرة فعلية، تعيد للمشاعر الوطنية ومفهوم المواطنة قوتها وحماستها.
نحلم بدبلوماسية مقدامة وفعالة وبراغماتية ومناضلة، لا سيما في اللحظات التي تتعرض فيها الأوطان للطعنات والحملات التي تسعى إلى النيل منها، وفي السياقات التي تضرب فيها القضايا المصيرية في الصميم. دبلوماسية تقوم على الكفاءة والاستحقاق والقيمة المضافة.
نحلم بتفعيل سريع للعدالة الانتقالية في الدول التي تشظّت، وكادت تنهار فيها المؤسسات وتنقرض، أو تختفي فيها شروط ومقومات الدولة، لتثبت هذه الدول للعالم قدرتها على اجتراح تجربة للمصالحة والصفح الجميل، ولتنخرط في أفق جديد من الحكامة السياسية والديمقراطية. ولتتبنى طرقاً بديلة في التدبير، واضعة نصب أعينها، أولوية، تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي وضمان الأمن لحماية المستثمرين المحليين والأجانب.
نحلم بمؤسسات تشريعية متطورة ومتفاعلة مع محيطها الوطني والدولي، ومنصة للتحولات التي تحدث في الداخل والخارج، مؤسسات تنتج الأفكار والمبادرات والاقتراحات، وترسخ الثقافة السياسية المشبعة بالقيم الديمقراطية، والمؤمنة بالاختلاف. مؤسسات تشريعية تعطي للنقاش جاذبية ومعنى، لتطيح بالصور النمطية التي عادة ما تلصق بها، وتعلن تمرداً على السلوكات والممارسات التي أساءت إليها.
نحلم بخدمات عمومية راقية وإنسانية، تُقدَّم للمواطنين بدون استعمال وساطات أو رشوة. ولكن، هذا حلم يصعب تحقيقه، إذا لم يقتنع الجميع بأن هذه الممارسات كارثة حقيقية على التنمية بمفهومها الواسع، وعلى البناء الديمقراطي. ما يتطلّب عدم التساهل مع هكذا أفعال ومعاقبة من يتورط فيها، ولا بد من مساءلة الذات، وتعميم النقاش في وسائل الإعلام حول الأعطاب والأمراض التي تنخر المجتمعات والمؤسسات، لكي يشعر الجميع بمسؤوليته في محاربة الظواهر السلبية، والحيلولة دون أن تحقق دولنا  مزيداً من التقدم في هذا المجال.
نحلم بدول آمنة، وبأجهزة أمنية وعسكرية، تؤدي واجبها ورسالتها، بعيداً عن المشاعر التي رسختها السياسات الأمنية السابقة، والتي كانت تضع الشرطي، أو العسكري، في مواجهة المدني، ما ولّد حساسية  بين الطرفين. نحلم باستراتيجيات استباقية، لقطع دابر جحافل الموت الممتدة من المحيط إلى الخليج، والتي باتت تنشط وتنسج الشبكات والموالين المعتنقين أفكاراً تذكّرنا بأفلام الرعب، الأكثر بشاعة وفظاعة. ولكي يحصل هذا، يجب الالتفات إلى الأوضاع المعنوية والنفسية والمادية والاجتماعية لرجال الأمن، والشروع في وضع خطط تحفيز شاملة، بما فيها التأهيل المستمر، لامتلاك الخبرات الأمنية المتطورة، وحتى يشعروا بقدسية دورهم ونبله وأهميته، عوض أن يشعروا بالإحباط وخيبة الأمل في أثناء أدائهم واجبهم. ينسحب الأمر على المؤسسة العسكرية التي ينبغي أن يشتغل أفرادها في شروط مريحة، تزرع فيهم شحنة معنوية إضافية، وتشعرهم بأن رسالتهم عامل أساسي في تقوية الدولة والمجتمع الديمقراطيين.
نحلم بإدارات مجتهدة ونشيطة، تؤمن بخدمة المواطن، عوض إحباطه وتيئيسه. وتسهم في تنمية الإنتاجية وإنعاشها، وهي المهددة بالانقراض في عدد  من مجتمعاتنا، خصوصاً في زمن انتشار قيم وثقافة اللامبالاة، وعدم الانتماء إلى مرجعيات سياسية أو فكرية، ترسم خارطة طريق القناعات المؤمنة بربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحصّن الذات من الارتماء في أحضان الفردانية والعدمية والانعزالية.
نحلم بأحزاب جريئة في مواقفها وخياراتها وبرامجها، وصريحة في خطاباتها، وواضحة في ممارساتها. نحلم بأحزاب منتفضة ضد العلاقات العقائدية والعشائرية والقبلية والشوفينية والعائلية والجهوية المنغلقة، ومتمردة على زوايا الزعامات التقليدية والأزلية، ومقتنعة بأن المجتمع الديمقراطي الممكن يحتاج إلى منهجية جديدة في العملين، الحزبي والسياسي، بعيداً عن التضليل والخداع، والتنويم الإيديولوجي، والتجمعات الفلكلورية التي تنظم، عادة، في المواسم الانتخابية، لدغدغة عواطف مواطنين، لا يصلحون سوى لرفع رصيد الأصوات في صناديق الاقتراع.
نحلم بانتخابات لا يتحول فيها المواطنون إلى قطيع للتصفيق والتصديق، وإلى مواد موسمية تباع بأثمان بخسة ومهينة، لإضفاء الشرعية على هذا الحزب أو ذاك.
نحلم بسياسة تُبنى على الأفكار والمشاريع المبتكرة والمنتجة، عوض رهن السياسة لعنصر المال والسلطة. سياسة قراءة الواقع بأدوات وعتاد معرفي، لتكون هذه السياسة أكثر واقعية وأكثر قرباً من المواطن. نحلم بتراجع نسبة الأمية السياسية والدينية حتى لا يبقى هذا الشبح ملتصقاً بنا، لكن المعركة ليست سهلة، وبقاء الآفة عائق كبير أمام التنمية والديمقراطية وتحقيق الدولة المواطنة والعقلانية.   
نحلم بمواطنين إيجابيين ومنتجين، يحبون أوطانهم ويدركون بأن أفضل أشكال الانتماء إلى هذه الأوطان، هو التفاني في خدمتها، والدفاع عن مصالحها وثوابتها ومقومات وجودها، بصرف النظر عن سلوكات الذين يختزلون الوطن والوطنية والمواطنة، في تعزيز مصالحهم وتقويتها، وامتيازاتهم، ويفهمون أن أي خطاب لا يلائمهم خطاب متآمر، ويسعى إلى التشويش على صفاء الخيارات التي يروجونها.
نحلم بمدن نظيفة، ومنسجمة في معمارها، لها روح وقلب نابض، مدن إنسانية، تزرع في ساكنتها، أسباب الحياة والعطاء والإبداع، مدن تشفي ولا تشقي، مدن مكتفية ذاتياً بالمسارح والقاعات السينمائية المريحة، والمكتبات المفيدة والفضاءات التي تمنح للناس طاقات إضافية لحب الحياة والإقبال عليها. مدن لها رئاتها الخضراء، لها شوارع ومسالك معقولة، ولها اكتفاؤها الذاتي في كل الخدمات الأساسية، خصوصاً الصحة والتعليم والنقل والثقافة والترفيه.
نحلم بمؤسسات تعليمية ذات مصداقية علمية وتربوية، قادرة على صناعة المواطنة، وتحصين الأوطان والمجتمعات من التفكك والانفصام والتنقاضات الصارخة. نحلم بمستسفيات تنهي عذابات ومعاناة ملايين ألمواطنين وتصحح الصورة المشوهة للصحة العمومية. 
نحلم بصحافة لا تسكنها أساطير البطولات، ولا عقد الزعامة والتسابق على إنتاج الإثارة، صحافة تخبر وترقّي الذوق والفكر، وتخلق تيارات داخل المجتمع، وليس صحافة تتهجّم وتشتم .نحلم بمؤسسات إعلامية  نمنحها ثقتنا، وتنيرعقول مواطنينا، عوض أن تشعل الفتن  وتشوش عليهم، مؤسسات  تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، وليس إلى زمن داحس والغبراء وحروب الردة وتصفيات الحسابات المذهبية والطائفية وإطلاق الكلام على عواهنه، ونشر فتاوى غاية في التعصب، من دون تقدير التداعيات الخطيرة التي يمكن أن تعصف بالتعايش والوئام والاختلاف والحوار، وهذه مبادئ وأسس تحصّن الاستقرار والأمن الروحي، وتضمن لكل عقيدة حق معتنقيها في ممارسة شعائرهم من دون إكراه أو ترهيب أو تطهير عرقي أو ثقافي أو ديني. انتشار هذه المنابر دليل قاطع على انحطاط الحوار وتفكك العقل الحكيم وانهيار القيم النبيلة وانتشار الجهل والعنف الأعمى. ومعلوم أن المنطقة العربية تعيش منذ سنوات على إيقاع فصول مدمرة من الحروب المذهبية والدينيةو بحمولة طائفية، فيما يشبه استعادة تراجيدية مجنونة لتاريخٍ ملطخ بالدماء ومؤثث بكل أسباب الكراهية والحقد، والإنتقام بدون سبب من الآخر، والرغبة في تحويل جغرافية مضطربة أصلا إلى مذبح مرعب تقتل فيه البراءة، وتعدم فيه الحياة لصالح إنتشار ثقافة الموت.  
عندما يُستعاد التاريخ في شقه الدموي المجنون والهائج ليضطلع بوظيفة غير تاريخية، عبر ترهيب المجتمعات وزعزعة استقرارها وزرع الشك والخوف في صفوفها وتشتيت شملها ووحدتها وتفكيك قوتها وتماسكها وانسجامها، والسعي إلى إيجاد الشروط المثالية لإشعال حرب طاحنة بين مختلف المكونات الدينية والهوياتية والتعبيرات الثقافية والفكرية واللغوية. فتلك هي مقاصد وأهداف الإستراتجية التي تتبناها التنظيمات الإرهابية من خلال زرع خلايا وتكليفها بمهمة إحداث صدمات نفسية جماعية، وإنتاج وتعميم مشاعر الخوف كمقدمة لخلق اجواء مسمومة ومطبوعة بالتشويش وعدم الإحساس بالأمن، وفي ذلك ضرب للإقتصاد والإستثمار وقتل للسياحة. ما يترجم رغبة التنظيمات الإرهابية للرفع من نسبة العاطلين وتألبيهم ضد المؤسسات، حتى يكفروا  بها .
لكن الحلم الأكبر يتمثل في إيجاد موطئ قدم وبيئة مناسبة وملائمة لترسيخ الرهان الديمقراطي الذي يتمثل حاليا، وبصرف النظر عن مسارات الديناميات الاحتجاجية هنا وهناك، في استئصال الفساد والهشاشة والفقر وتقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والمجالية ومحاربة اليأس والإحباط الذي بات ينخر شباب معظم دول المنطقة، وقطع دابر الانتهازية، والقطع أيضا مع معادلة السياسة مقابل الثروة، وإعادة الإعتبار للكفاءات ذات المصداقية. فلا قيمة لأي إصلاحات دستورية وسياسية او أي شعارات حول الانتقال الديمقراطي، إذا لم تكن مصحوبة بقرارات جريئة لتقويم الاعوجاجات التي طالت أساليب التدبير والتسيير، واحتواء الاختلالات التي مست النموذجين، الاقتصادي والاجتماعي، ووضع حد للانحطاط السياسي، وفشل الاختيارات المتبعة في القطاعات الإستراجية الأساسية. 
ومهما بلغت التنافسات السياسية والصراعات الفكرية والإيديولوجية من حدة وضراوة بين مختلف الفاعلين والفرقاء السياسيين، فهناك قواعد ومقتضيات يجب الاحتكام إليها، لتجنب الانزلاقات، والحيلولة دون الوقوع في اخطاء قاتلة، قد تضعف المؤسسات وتضر بهيبتها، ومن هذه المقتضيات، خدمة الوطن والمواطنين، والدفاع عن المصلحة العامة، والانصات إلى نبض الشارع، والتعامل بجدية وبحس استباقي مع مختلف المطالب والمشاكل، فالالتزام بهذه المقاربة في سلوك وممارسة الفاعلين والمسؤولين على اختلاف مواقعهم، قادرة على وقف عدد من المظاهر المسيئة لأي تجربة ديمقراطية صاعدة وقادرة على زرع الأمل والثقة في المؤسسات.