عبد اللطيف برادة: من أجل تطبيق الجهوية المتقدمة على الشكل المنشود

عبد اللطيف برادة: من أجل تطبيق الجهوية المتقدمة على الشكل المنشود عبد اللطيف برادة

يحتل موضوع الجهوية مكانة خاصة في خطب جلالة الملك محمد السادس كونها تؤسس لمرحلة مهمة في تاريخ المغرب، و أنها كما جاء  في احدي خطبه تكرس لنهج الديمقراطية إذ تبعا لذلك فـ"الديمقراطية ليست مجرد تجسيد للمساواة في ظل دولة الحق والقانون، بل هي احترام لتنوع الخصوصيات الثقافية الجهوية التي تنسج الوحدة الوطنية المتناسقة"، وبناء على ذلك وجب ترسيخ هذا المفهوم الجديد بالعمل على "انبثاق نموذج مغربي لجهوية متميزة بعيدا من اللجوء للتقليد الحرفي أو الاستنساخ الشكلي للتجارب الأجنبية"، حيث يتحقق المشروع ضمن تصور عام يسمح للمغرب بالانتقال من تنظيم إداري مبني على مركزية مفرطة إلى نظام يتأسس على مقاربة ترابية، مع وجود جهات قائمة  تراعي "تقسيم ناجع متكامل اقتصاديا وجغرافيا ومنسجم اجتماعيا وثقافيا" دونما تهميش لأي مساهمة حزبية أو جمعوية أو أكاديمية في إطار يحتكم لـ "المقاربة الديمقراطية التشاركية"، كشرط مهم يتوج الإصلاح الجهوي بالنجاح.

وإذا كانت الجهوية كما يتبدى من خلال خطب الملك محمد السادس تهدف لاحتواء النزاع الصحراوي مع جبهة بوليساريو، وهو خيار الجهوية الموسعة بأشكالها المتنوعة أرقاها الحكم الذاتي، الذي تقدم به المغرب إلى الأمم المتحدة من أجل تطبيقه بالصحراء الغربية، فإن هناك جهوية موسعة أقل منه درجة ستطبق بالجهات غير المتنازع عليها، وهو مشروع يؤسس من دون شك لإصلاح عميق يُمَكّنُ المغرب من جهوية متقدمة، ديمقراطية الجوهر، مُكرسة للتنمية المستدامة والمندمجة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وبيئيا.

وبناء على ذلك قد نتساءل اليوم، هل تمكنت المملكة المغربية حقا من تطبيق النموذج الجهوي المرتكز على التدبير الترابي الحر؟ أم أنه لازالت هناك اختلالات دستورية وقانونية تحد من ذلك في ظل تنافر الرؤى السياسية لإصلاح الجهوية المتقدمة إداريا؟

ماذا طرأ بعدما كلفت في هذا السياق اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة مع إشراك الجهات النافدة من أجل رصد المعوقات أي كانت مع تغيير الوضع القانوني الذي يعيق أو إزاحة نوع العائق سواء كان نتيجة لخلل ما أو بفعل تغير الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وذلك من خلال "الأوراش الكبرى" التي كان لبعضها أن كُلِّلَت مهامها بتهيئة الظروف لمرحلة سياسية جديدة، كما هو الشأن لهيئة الإنصاف والمصالحة التي حاولت إلى حد ما إعطاء توصياتها حججاً من أجل تضمينها في دستور يعترف بالحقوق والحريات. مثلها في ذلك مثل اللجنة الاستشارية للجهوية المتقدمة التي كلفت بإعداد تقرير مفصل تأسيساً على التوجيه الملكي، يتضمن الإشكاليات والتحديات التي تعرقل تكريس النموذج الجهوي، واقتراح حلول تؤدي بالمغرب إلى أن يتحول لدولة الجهات،  في المستوى الذي يؤهلها إن تتبنى تصور الجهوية المتقدمة فيما تضمنه مقترح المغرب المرفوع للأمم المتحدة بشأن منح الصحراء الغربية حكما ذاتيا، في إطار الشرعية الدولية.

والحقيقة أنه كما يبدو لي ذلك على ارض الواقع ان الجهوية رغم تظافر الجهود والعمل الحتيث في تطبيق بنود قوانينها لازالت تراوح مكانها حبرا على ورق في إدراج الإدارات تتدحرج بين الاخد والرد وتعاني من عوائق جمة لم يتم الكشف عنها مجملا وان تم ذلك في بعض الجوانب فلم يتم مرافقة ذلك التحري ما يجب من الآليات لإزاحتها حتى تكتمل الصورة لكي تأخذ الجهوية حيزا كافيا من التطبيق والحقيقة كذلك ان هذا الوضع السلبي يرجع لعدة أسباب أولها أنه بالرغم من وقوف لجنة الجهوية على الكثير من الاختلالات الجغرافية والقانونية في سياق بحثها عن البدائل الممكنة، اكتفت بدل إجراء تعديل دستوري شامل بالدعوة إلى التدرج في الإصلاح المؤسساتي والقانوني وذلك بدون تطرقها راسا على مكامن الخلل، زد على ذلك أن تعامل الفاعلين السياسيين مع المسألة الجهوية ظل مرتبكا، إلى درجة أن غالبية الأحزاب السياسية لم تتحرك لمناقشة المشروع الجهوي إلا بعدما طلبت منها اللجنة الاستشارية التحرك عقب خطاب تأسيسها مباشرة، مقابل اكتفاء بعضها الآخر بطرح تصورات أولية فقط، فضلاً عن عمومية مقترحاتها، من دون أن ترقى إلى المستوى السياسي للجهوية المتقدمة. كما ساهم من جهة اخرى الصراع السياسي الذي يعرفه المشهد المغربي منذ انتخابات البرلمانية 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2011  بدوره في التأثير في تشكيل رؤية موحدة أو متقاربة تسمح بالسير قدما تجاه صوغ قوانين تنظيمية في إطار تشاركي تشاوري يعزز مقتضيات الدستور مؤسساتياً، و هكذا نتيجة لكل هذه الأسباب واجهت تطبيقات الجهوية الموسعة عراقيل جمة نتيجة لتجاذب وتنافر المواقف والتصريحات الحزبية حول العديد من القضايا، آخرها تعبير أحزاب المعارضة في مذكرة مشتركة عن رفضها لمسودة مشروع القانون التنظيمي حول الجهة بدعوى عدم تضمين عدد من مقتضياتها الإعمال الفعلي لمبدأ التدبير الحر المنصوص عليه في الفصل 136 من الدستور، سيما في ظل توسيع مجال المراقبة الإدارية المنصوص عليها في الفصل 145 من الدستور على حساب هذا المبدأ.

وهو المبدأ الذي تسبب في تداخل اختصاصات الجماعات إلى حد الخلط والتنازع وتكريس عدم الانسجام الخاضع بدوره لإكراهات المراقبة المركزية في شخص والي الجهة الذي له، بموجب مقتضيات مسودة المشروع، حق التعرض على مقررات وقرارات الجماعات الترابية، وهي أسباب تحد في حد ذاتها مجملا من الرقي إلى مستوى الجهوية المتقدمة المنتظر تكريسها قانونيا على المستوى الإداري، وهو الأمر الذي يؤشر إلى أن منطق التكريس الدستوري للتدبير الترابي الحر للجهة بالمغرب، ما زالت تعترضه تجليات التناقض السياسي القانوني بالرغم من محاولات الإصلاح المتدرجة، التي تحتاج بدورها إلى تمييز الفاعلين الحزبيين بين أهمية أدوارهم السياسة ومسؤولياتهم القانونية ضمن النسق السياسي المغربي ككل من أجل إفساح للجهوية فرصة حقيقية حتى تتمكن من الانتقال من مرحلة التنظير إلى حيز التطبيق حقا وواقعاعلى أرض الواقع.