محمد بوبكري: موت الإنسان في الإنسان

محمد بوبكري: موت الإنسان في الإنسان محمد بوبكري، محلل سياسي

مع أن الإنسان لا يكون إنسانا إذا كان معطل الفكر، فهذه المسألة لم تكن قضية فكرية أو ثقافية عًلى امتداد التاريخ العربي الإسلامي. لذلك، يجب على مجتمعات اليوم أن تحدو حدو الرومان الذين ميزوا في قانونهم المدني بين الإنسان وغيره من الكائنات الأخرى، حيث هناك الشيء المادي، وهناك  الإنسان، ما يقتضي عدم معاملة "الشخص" الإنساني كما تتم معاملة "الشيء".

        وما نشاهده اليوم في العالم العربي الإسلامي يُبٓيِّن بجلاء أن الإنسان يعامل بكونه شيئا يُمتهن، ويُعنّف، ويُفتك به، ويعذب، ويٌقتل بأشد الأساليب عنفا ووحشية التي لم يعرف تاريخ الوحشية مثيلا لها..

      وما حدث في "ثورات" ما سُمِّي ب "الربيع العربي" وبعدها، يقدم مثالا مرعبا على ذلك، ويعد أكبر امتهان عرفه التاريخ للإنسان.

ويعود ذلك إلى كون جماعات التكفير الموغلة في الطائفية في مجتمعات العالم العربي الإسلامي تُولِّد شعورا لدى أفرادها بأنهم أفضل من غيرهم من أبناء الطوائف والديانات الأخرى، ما ينجم عنه إحساسهم بتعاليهم عليهم واحتقارهم لهم... وبذلك تُرَسِّخ هذه الطوائف نوعا من ثقافة استعلاء الذات والاعتقاد بأنها أفضل من غيرها.

       ويتضح ذلك في رفض هذه الجماعات والطوائف تقبل مبدأ اختلاف سائر المعتقدات والمذاهب الدينية وغيرها، والتعايش مع أصحابها. في ذلك، نجد أن هذه الجماعات والطوائف تغرس في أذهان أتباعها أنها تمتلك الحقيقة المطلقة، ما يرسخ في أذهان هؤلاء الأتباع أن الأديان السماوية والطوائف الأخرى هي مُحرَّفة ومضلِّلَة، مع أنَّ من لا يعترف بديانات الآخرين وقناعاتهم لن يحترمه الآخرون، كما أن من لا يعرف ديانة غيره لن يعرف ديانته... وهذا ما يعكس ضيق أفق هذه الجماعات، إذ لا ينبغي أن تحصر نظرة أتباعها وفكرهم في نطاق طائفتهم وجماعتهم الصغيرة فقط. هكذا لا تمكِّن هذه الطوائف أتباعها من أن يفتحوا أعينهم على العالم، ما أدى إلى تغييب هذا الأخير وحجبه عنهم.

       وعندما يعتقد الإنسان بأنه أفضل الناس تَوَهُّما منه أنه يحتكر الحقيقة المطلقة، فهو سينظر إلى الآخرين ممن يعتقدون أو يتبنَّون "حقائق" مغايرة، ليس بوصفهم مساوين له في الحق في الوجود والتفكير والتعبير، بل بكونهم كائنات منحرفة وضالة. ويرجع ذلك إلى أن الطائفية لا تتجاهل تنوُّع الأديان والمذاهب والأفكار في منطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع فحسب، بل تتجاهل أيضا التنوُّعَ الإثني واللغوي والثقافي، فضلا عن التعدُّد المذهبي داخل الدين الإسلامي ذاته، عندما تفرض وجهات نظر بعينها في قضايا تعدَّدت فيها آراء المسلمين...

       غالبا ما تقوم الطائفية على التأطير بالأوامر والنواهي القاطعة، إذ تحول دون تساؤل الفرد، فتحرمه من نعمة التفكير والتعبير والتواصل، ما يعوق فهمه للدين والحياة معا... أضف إلى ذلك أن الطائفية لا تمتلك أية مقاربة تُمَكِّن الإنسان من إدراك الجانب الروحي للدِّين الذي تتضمنه الأغلبية الساحقة من آيات القرآن الكريم، حيث لا تهتم غالبا إلا بنشر بعض الأحكام المرتبطة بالعلاقات بين البشر التي هي قابلة للتغيير بتغير أحوال المسلمين وظروفهم...

      كما تنهض الثقافة الطائفية على الفتاوى الشرعية التي كانت سائدة في القرون الماضية، حيث يتم استحضار بعض التفسيرات الدينية التي أنتجها فقهاء طائفيون في تلك الأزمنة. لكن ما يتم نسيانه أو تناسيه هو أن تلك التفسيرات والأحكام قد تكون مناسبة لعصرها دون أن تكون مُطلقة. إلا أنَّ هذه البديهية لم تجد طريقها بعدُ إلى العمل بها في التأطير الطائفي حاليا.

      لقد تغيرت مجموعة من الأحكام المتعلقة ببعض القضايا بتغير الظروف والأحوال في عهد الرسول (ص)، ما يشكل درسا للمسلمين. فلو أراد الله حكما قاطعا واحدا بدون تبديل ولا تغيير لفعَلَ. ومعنى هذا أن الإسلام ليس دينا جامدا ثابتا، وأن للمسلمين دورا فاعلا، ما يستوجب ضرورة تغيرهم كلما ظهرت مستجدات وتغيرت ظروفهم وأحوالهم لمواكبتها. ويقتضي ذلك تغيير الأحكام المتعلقة بحياتهم دون المساس بجوهر العقيدة.

       وإذا كانت الطائفية تفصل بين العقل والدين. فهذا يستوجب الرد عليها بالعديد من آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى استخدام العقل والتفكير، مثل «قد بينا الآيات لقوم يوقنون» ( البقرة، 118)، و«كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون» (البقرة، 219)، ثم «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم لعلهم يتفكرون» (النحل، 44) وكذلك «وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون» (الحشر، 21)، وأيضا «وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» (النحل43)، وأخيرا إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون( الأنفال22).

       لقد أٌنزل القرآن المجيد هداية للإنسان وموعظة له... وكل ذلك لا يتأتى إلا بالفهم وإعمال العقل.

       لقد نجم عن الفصل بين الدين والعقل وجود جماعات تكفيرية في العالم العربي الإسلامي لا تُعمل الفكر في فهم الدين. وهنا تكمن الإساءة إلى الدين، حيث إن غير الفكري هو حتما غيرإنساني. فهذه الجماعات التكفيرية تنظر إلى الدين بكونه امتيازا، ما جعلها تحوله إلى سيف، و"سلطة" مطلقة توظفها لخدمة مصلحتها السياسية بهدف السطو على السلطة والثروة والنساء... كما أنها توظف المال للاستيلاء على الحاضر والمستقبل، مما جعل الدين يصبح مع هذه الجماعات ظاهرة سيكولوجية، منفصلة تماما عن الفكر على المستويين المنهجي والمعرفي...

       هكذا تم بتر إنسانية الإنسان، وتحويله إلى حيوان، ومعاملته باعتباره كذلك. فهذه الجماعات لا تنظر إلى الإنسان إلا من حيث كونه "مؤمنا" أو "كافرا"، ما جعلها لا تصارع "فكره"، وإنما تحارب "شخصه". وعندما يحارب الإنسان بكونه "شخصا" وليس "فكرا"، فهذا يدل على النظر إليه بكونه مجرد "شيء" أو حيوان دنس، ما يجيز قتله في نظر هذه الجماعات التكفيرية.

    وعندما نعود إلى مجتمعنا المغربي نجد أن بعض الأشخاص، المحسوبين إيديولوجيا على هذه الجماعات التكفيرية التي تفصل بين العقل والدين، لا يترددون في الإيمان بالعنف جَهْرًا أو سرا، لكنهم لا يكفون عن ترديد الحديث عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، ما يعني موت الإنسان في الإنسان ( ميشال فوكو).