بمجرد أن حصلت الأقطار العربية على استقلالها واسترجاع "حريتها" من المحتل الأجنبي، منذ حوالي الأربعينيات من القرن العشرين، وهي في صراع متواصل مع الذات والآخر، وقد كانت السلطة ومازالت عصب التناحر الدراماتيكي بين الحاكمين المحظوظين والشعوب المحرومة، تلك السلطة القائمة على الرغبة الجامحة في التحكم والاستئصال والقمع، والوقوف في وجه أي نزعة نحو انتقال ديمقراطي نوعي، يروم تمكين "المواطنين" وتأهيلهم للتعاطي الإيجابي مع معترك الحياة الاجتماعية بمعناها الشامل، ومأسسة الفاعلية السياسية وعقلنتها بالشكل الذي يتماشى ومنطق الدولة المدنية الحديثة .
وهكذا كان نصيب كل من تجرأ من المناضلين الشرفاء القوميين والاشتراكيين والشيوعيين والليبراليين والإسلاميين على أصحاب "الفخامة والسمو"، واقترح نهجا سليما في الحكامة الرشيدة والقيادة الراجحة.. كان نصيبه كل ما يخطر وما لا يخطر على بال أحد من المعاناة والحرمان والجبروت الرمزي والبدني، مما أفضى إلى انتشار معالم اليأس والإحباط وفقدان الأمل بأي حلم في رؤية الضوء في آخر النفق، خاصة وأن الزعماء العرب الأشاوس قرروا بأنفسهم و" نيابة" عن شعوبهم أن يواجهوا "بتحد وصمود" إسرائيل "عدوهم" الأول، و يحرروا فلسطين "كل" فلسطين، بعد ذلك ينعمون بمتسع من الزمن لتحقيق "الوحدة العربية" والديمقراطية والتقدم والتنمية.. فلا هم حاربوا إسرائيل ولا هم أقاموا نظاما سياسيا عادلا. و جرت مياه غزيرة تحت جسر الأمة العربية الجريحة، لنستيقظ في سنة 2011 على أصوات الشباب العربي غير المسيس، وهي تنادي في ساحات التحرير بالعدالة والحرية والكرامة الإنسانية وإسقاط الفساد والاستبداد، مما أدى إلى إزاحة بعض رموز الغطرسة في مصر وتونس وليبيا واليمن... على أمل بلورة انعطافة سياسية مفصلية، تقطع مع ممارسات تجويف المجتمع من قواه الحقيقية سياسيا وثقافيا وإعلاميا واجتماعيا، وترنو إلى بناء تجربة سياسية تستحضر مستلزمات الحداثة وآليات الفاعلية الديمقراطية بمعناها الكوني .
بيد أن جيوب مقاومة التغيير في الدولة العميقة أبت إلا أن تجعل من الربيع الديمقراطي الواعد خريفا عربيا يقطر دما وألما وظلما! وانقلبت على الاستحقاقات الشرعية والمؤسسات المنتخبة في مناخ من التنافس الحر والمواجهة الشفافة. فماذا ربح المنتكسون من عرقلة الانتقال الديمقراطي المجهض؟ وماذا قدموه لأجيال الأمة من نماء وتقدم، غير الإمعان في الاستئصال والتفرد بالحكم، والزج بالمخالفين وأصحاب الرأي المستقل في غياهب السجون والمنافي؟ إذا تأملنا الوضع الجيو-ستراتيجي المحيط بالمنطقة العربية لاحظنا بجلاء أننا أمام دول كبرى بمشاريع عملاقة اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا: تركيا وإيران وإسرائيل؛ فعلى الرغم من التناقضات الحادة بين هذه الأقطاب الكبرى إلا أنها تميل ميلا إلى بناء قدراتها السياسية والتنموية بإصرار لا غبار عليه، أما الكيانات العربية الكبيرة والصغيرة، وهل هناك فرق؟ فقد آلت على نفسها أن تسترجع حروب البسوس وداحس والغبراء، وتجتهد اجتهادا في محاصرة بعضها، وتتأهب لمواجهة "أشقائها" بأحدث الأسلحة، وترمي بها في هوة الخراب، ألسنا أمة ضحكت من جهلها الأمم؟
لا يشك أي متابع محايد للوضع السياسي الإقليمي والعالمي، في أن العرب، وبعد أن أبدعوا في ضياع فرص النهوض الحضاري المأمول، سائرون إلى حتفهم، وماضون إلى المجهول عن سبق إصرار وترصد، بل إنهم صاعدون بحماس إلى الهاوية، إلا إذا حدثت معجزة في زمن لا يؤمن إلا بالقوة الفاعلة والعقل الراجع والعمل الدائم، وهذا ما لا نراه في أمة لها قابلية الانهيار والاندحار!
- الصادق بنعلال، كاتب