إن الإنسان منذ أن قذف به في هذا الكون، وهو يتساءل العديد من الأسئلة، من قبيل من أنا ، ومن خلقني ومن هذا الآخر الذي يتقاسم معي العيش في كنف الطبيعة، ومع الانتقال التدريجي لنمط عيش الإنسانية، والذي مرة من العشيرة إلى القبيلة، ثم وصولا إلى جماعة كبرى أصبحت أنماط العيش تختلف من إنسان إلى آخر ولم يجد هذا الكائن حينها سوى الإيمان بأفكار تيولوجية وميتافيزيقية، من أجل الإجابة عن تلك التساؤلات، ومنح نفسه شرعية وجوده، فأمن بوجود قوة ما قامت بخلقه، ولكن بقية جاهلا مصدرها .....لذا أصبح يركع لكل قوة تهدد وجوده، كالركوع للمطر، والرعد، والبرق...وإعطائها صفة الألوهية، ومن هنا صارت الطبيعة تتحكم في الإنسان وفي مصيره دون وعي منه.
إذن نجد أن البشر في بحث دائم عن تبريرات لوجوده، فلم يعثر على علة تقوم بهذا الدور ,سوى التمسك بالمقدس، بإعتباره ذلك الترياق الذي يبررون عن طريقه وجودهم وصراعاتهم، فالمقدس بدأ مند بداية الخلق وإن كان ذو شرعية قوية حينها إلا أنه لم يكن بتلك الحدة التي يلعبها داخل المجتمع المعاصر، كما يقول الفيلسوف وعالم الإجتماع,إميل دوركهايم(إن المقدس هو فعل إجتماعي)، مثله مثل سائر الأفعال الإجتماعية، ولكنه يمثل دور كبير بالنسبة للإنسان، دون ادراك بذلك .فمن وجهة نظري أن المقدس في فاعليته تلك ينتقل من واقع اجتماعي إلى وسيط بين الخالق والمخلوق أو بين الطبيعة الطابعة ,والطبيعة المطبوعة، بحد تعبير الفيلسوف الهولاندي، باروخ إسبينوزا.
ومن بين أكثر المقدسات التي تشكل هي الأخرى أيضا لحمة ودفء، بين الأفراد نجد ظاهرة عاشوراء .إذن فما هي عاشوراء، وماذا تعني دلالاتها الرمزية؟ولما تكون النساء هن أكثر قابلية وإندماج مع هذه المناسبات؟وهل بإمكاننا الحديث عن مجتمع يعيش الفردانية وحرا في إختياراته، في ظل هذا الطقس؟وهل عاشوراء أسطورة، أم خرافة؟
تعد عاشوراء من بين اكثر الطقوس الإحتفالية التي توارثناها من جيل لأخر,إذ يجتمع فيها الإحتفالي, والتجاري ،والأهم من هذا الحضور القوي للجانب الإجتماعي .وإذا ما عدنا إلى المغرب ، لوجدنا ان هذا الطقس تجتمع فيه كل المتناقضات ، فهو إما حزن مستمر او فرح وتزيين وبهجة ,وإن كان هذا الأخير هو الجانب المسيطر .والغريب في لأمر أن هذه التقاليد تمارس بكل تلقائية,دون معرفة حمولاتها .
تنفرد ظاهرة عاشوراء بتقاليد شعبوية مثيرة للجدال، أبرزها التراشق بالماء، وثانيا :اشعال النار.
سنصوب حديثنا في الوهلة الأولى على التراشق بالماء، أو ما يسمى (بزمزم):إن الماء كان ولا يزال يرتبط برمزية التطهير من المعاصي والذنوب في جميع الثقافات العربية ,ولم تكن هذه الرمزية حكرا على المسلمين فقط ,بل في سائر الثقافات الإنسانية/ وهذا ما تطرق إليه عبد الفتاح فاتحي في مقاله (الدلالة الرمزية لرش الماء في عاشوراء)"ان الدلالة الرمزية لرش ماء عاشوراء في الثقافة اليهودية والمسيحية تشكل رمزا ضروري ، إذ يحتفى بالماء بشكل عميق وقوي، ففي العهد القديم يبتدئ الكتاب المقدس من سفر الرؤيا,بكلمة الماء ,وينتهي بماء النهر الحي، وهي مياه الخلق ، مياه الطوفان، مياه تطهير اليهود.
ويتجسد التعميد بالماء في العهد الجديد,أي الثقافة المسيحية كما اليهودية ,تطهير وثوبة من الخطايا, كشرط لقبول يسوع المسيح "معاناة المسيح"الذي سيعود في وقت لاحق من السماء في سحابة .وفي الثقافة الكنعانية، تكمن القيمة الدلالية للماء في البعد التطهيري ,وارضاء الألهة، حيث يعتبر الكنعانيون أن الإغتسال والتطهير بعد الحرب ضروري ,ذلك لأنهم يعتبرون الحرب جريمة لا بد من غسل أثارها.والفينيقيون يحتفلون بأدونيس إله الخصب بعد تساقط الأمطار والسيول ، وهم كلهم ظن أن المياه الحمراء تمثل دم ادونيس ,ورمز لتجديد الطبيعة ,بها تكتسي الأرض خضرة ، وينتشر الدفء".
أما المسلمون ففي تقديري أن دلالة الماء ترتبط عندهم بالحياة، وذلك نظرا لإتباعهم قول الله تعالي في كتابه (ولقد جعلنا من الماء كل شيء حي)، لهذا فإنهم يحرصون على القيام بأحد الدلالة الضرورية بالنسبة لهم، وهي وضع المياه في الجرة(القلوش) ويقمون بوضع مقام صدقة على الأموات ، اعتقادا منهم أن تلك المياه ستجعل ذلك الميت حيا في مماته ,وذلك يعود إلى أصل (الجرة)لكونها مصنوعة من الطين، والإنسان مصنوع هو الأخر من الطين,فلهذا فالماء الذي يسكب داخل الجرة ,هو الذي يحيي طين ، والإنسان في آن واحد.
أما إشعال النار أو ما يطلق عليها ب(الشعالة)فهي ظاهرة يقوم بها الشباب من أجل إظهار رجوليتهم وقوتهم، وهذا ما نلاحظه في هذه المناسبة، إذ نرى أن الشباب حينما يشعلون النار يبدأون بالقفز من فوقهاـ وهناك من يطهي عليها اللحم (القديد) ويشرع في أكله ,طمعا منه ان في ذلك بركة، وأنه انهى سنته بأكل اللحم، وهذا الأخير لديه حمولة قوية لذا المغاربة ,ففي نظرهم أن من يكل اللحم هو ابن الخير والخيرات، ومن يتناول غيره فهو مجرد فقير لا حول ولا قوة له .
ومن هنا نرى بأن إضرام النار ، يدل على انتهاء سنة كاملة ,بصراعاتها ومحنها وحزنها.في حين أن رش الماء(زمزم)فهو بمثابة بداية وأحياء لسنة جديدة، كلها سعادة وراحة وهناء ,عكس تلك التي ولت .
إن هاتين الدلالتين يشكلان مظهرا من مظاهر الفرح ولإحتفال عند المغاربة ، وبالخصوص عند النساء ,لأنها تجعل المألوف لا مألوف، وألامألوف مألوف.وإكتمل هذا الإستتناء في خروج النساء وانخراطهم في هذا الجو من المرح .والسؤل الجوهري هنا ,لماذا تكون النساء هن أكثر انسجاما مع هذه التقاليد الشعبوية؟
إن البشرية من بدايتها وهي تتزعم وتشجع الهيمنة الذكورية، وهذه الأخيرة كانت ولا زالت بمثابة تقديس بالنسبة لرجل، لكونه يحس من خلالها برجوليته وذكوريته داخل المنزل ,ويكون هو الأمر والناهي والواصي إن صح التعبير على المرأة.ويجعل منها دائما كائنا تابعا لأرائه واختياراته، وبهذا يفرغها من هويتها ، وينزل من قيمتها ، هذا ما يجعل من كينونتها ,كينونة تابعة لا ذات حرة وواعية ومريدة.
في حين أن هذه العقلية أصبحت تغدوا كونها ,ذلك الكابوس الذي تعيشه كل النساء دون سواء ,وعلى الرغم من ذلك الجحيم الذي تعشنه إلا أنهن لا يتجرأن على التفوه بأي كلمة ,وذلك راجع بحدة كبيرة إلى ما هو ديني ، لقول الله تعالى، (إن الرجال قوامون على النساء)وكذا أسطورة الخلق التي تؤكد على أن حواء خرجت من ضلع ادم هذا ما يجعلها ترى نفسها مجرد مكمل وتابع لذلك الرجل.وبهذا نرى بأن الدين هو أكثر الآليات التي كرست هيمنة ذكورية داخل المجتمع .,وكذلك الولدين لهم الدور الأوفر في ذلك ، فحين يريدون أن يقتنوا لأبناءهم ألعابا في مناسبة عشوراء، فإنهم يقتنون لطفل مسدس، وهو دليل على القوة ,والعمل خارج البيت ,ولكنهم يقتنون للفتاة مطبخ(كوزينة)وهي دليل على قيامها بأشغال المنزل والطهي ,وان دورها لا يتعدى المنزل .كما تقول الفيلسوفة والروائية سيمون ديبوفوار :(ليس هناك رجل أو امرأة، وإنما نحن من نعطي تمثلات لمفهوم المرأة والرجل من خلال التنشئة الاجتماعية).
وفي ظل هذه الهيمنة التي تعيشها المرأة طيلة السنة ,فإنها تجد في ظاهرة عشوراء، ذلك المنقذ والمنجد من سلطة الرجل، ومن خلالها تقوم بثورة على تلك العقلية الذكورية السلطوية عن طريق احتفالاتها بشتى الطرق، وكذا خروجها فأي وقت تريده ،حتى وإن كان وقتا متأخرا من الليل، فإنها تصبح هي الأخرى تطبق عنفا رمزيا على ذلك الرجل الذي لطالما عنفها نفسيا ، وتجعل من ذاتها مالكة لزمام السلطة، من خلال ضرب الطبول بطريقة هستيرية وبصوت عالي من أجل أن يسمعها ذلك الذي تراه طاغية ,ومهيمن على أنوثتها وحريتها.ولن يجرؤ الرجل على التحكم فيها أو النطق بأي كلمة لأن المسألة ترتبط بما هو مقدس، وان حدث وحرك ساكنا ،سيجد نفسه مهاجم من طرف اكراهات اجتماعية عدة.
وبهذا نخلص بأن عاشوراء ورمزياتها، في بداية نشوء المرأة ,كرست لها الهيمنة الذكورية ولكن في كبرها ومع تكوين وعييها كان طقس عاشوراء هو ذلك الملجأ الذي لجأت له من اجل شن حرب على كل ذي عقل ذكوري محض.هذا ما يحيلنا إلى طرح التساؤل التالي:هل الأفراد يعيشون حرية وفردانية في. ظل سيطرة المقدس؟
لقد مر المجتمع من مجتمع تقليدي وصولا إلى مجتمع حديث، ولكل مجتمع معاييره التي تحدده اقترانا بالشروط والحقائق التي تحكمه ، وكذا بالحقبة التاريخية التي مر منها.
فإن المجتمع التقليدي، كان فيه نظام القرابة والجماعة، وكثافة سكانية قليلة، والمهم من هذا، هو أنه كان يحكمه الضمير الجمعي ,وكان هذا الأخير يمارس إكراها قويا على الأفراد بحيث كان يطغى فيه غياب الفردانية والإستقلالية، والكل يدخل تحث لواء إكراه الجماعة والتقاليد والطقوس العقدية.
ولأسباب عدة منها ما هو اقتصادي واجتماعي وثقافي....تحول المجتمع على حين غرة من مجتمع تقليدي ,إلى مجتمع حديث.وهذا النوع من المجتمعات يتصف بالفردانية وإستقلالية الأفراد وعلاقاتها الاجتماعية، أصبحت مختلفة عن نظام القرابة .وانسلت من سيطرة العقل الكلي الذي يلزم الأفراد إلى الانخراط مع الجماعة.
لكن في اعتقادي بأن المجتمع تغير ظاهريا ولم يتغير باطنيا، وحينما نقول باطنيا ,فإننا نقصد نمط تفكير الأفراد وجوانبهم الروحية.فبالرغم من أن الأفراد يظنون أنهم أصبحوا يتمتعون باستقلالية وحرية إلا أنهم لا يزالون خاضعين للبنية الإكراهية للمجتمع ,والدليل على هذا حينما تأتي المناسبات التقليدية المقدسة,كظاهرة عاشوراء، فهي تجعل الناس يدخلون في إكراه اجتماعي قوي، وكذلك الامتثال لنظام القرابة، إذ نجد أن كل فرد يبدأ بالاحتفال بهذه المناسبة ,إلا ويشرك معه الآخرون,والعائلات تحيي مع بعضها البعض صلة الرحم التي تكون منقطعة,لمدة سنة بأكملها، والكل يشعر بفرحة غير عادية في محلات بيع الطبول ,ويشرعون بقرعها مع بعض دون أن يكون هناك شرط قرابة ، أو شيء من هذا القبيل يجمعهم,فيعود المجتمع دو جسد واحد يعيش مواساة وتلاحم غير مسبوقين.
ومن هنا نستشف بأن الأفراد يتوهمون الفردانية والحرية في اتخاذ القرارات ,في ظل ثورة المقدس داخل المجتمع،وأننا لا زلنا في مجتمع تقليدي بالرغم منا.وما دامت عاشوراء قادرة على توحيد تفكير الإنسان ، فهل تستند إلى ما هو أسطوري عقلي ,أم لما هو خرافي تلقائي,؟أو بلغة أصح،هل عاشوراء أسطورة أم خرافة؟
إن الأسطورة هي قصة خيالية تقص أحدات البدايات وأصول الإنسان، وتفسر الظواهر الكونية والإنسانية والحيوانية، كما أنها قصة مجازية ترتبط فلسفتها بالإنسان البدائي.
وتتميز الأسطورة عن الخرافة بعمقها الفلسفي، وهذا ما يجعلها خاضعة لنظام العقل وآلياته، وكانت بداية دراسة الأساطير مقترنة بكتاب جيمس فريزر الذي ألفه سنة 1890، جمع فيه كل الأساطير الإنساني، وعنونه ب"الغصن الذهبي".
والأسطورة لا تعني الخرافة فالخرافة هي اسم ارتبط برجل إختطفه الجن لعشرة سنوات، وحين عودته بدأ يحكي عن ما رآه هناك فأصبح حينها كل كلام غير مسند للعقل، حديث وخرافة. وهذا ما ينطبق على ظاهرة عاشوراء فإذا ما قاربناها ورأيناها من زاوية أكثر دقة، بعيدة عن ما هو ديني لوجدناها مجرد خرافة، لكونها تعتمد على رمزيات ودلالات غير مقبولة عقليا ، كدفن احد عظام أكباش العيد ،وإعطاءه سمة إنسانية، ويبدؤون بندب وجوههن .....وبالنسبة لناس هي مجرد أفعال تدخل السرور والفرحة على القلوب، ومن هنا أرى بأن الندم الذي يرتبط بالحزن، يأتي بسعادة كبرى، ففعلا عاشوراء تجمع بين المتناقضات والمتقابلات، من خلال طقوسها تلك.ولا يمكن لهذه الطقوس أن تسموا إلى قيمة الأسطورة,فالأسطورة شيء مسطور من السطر أي أنها ترتبط بالكتابة,ولا بالكلام فقط.فالإلياذة و الأوديسا لشاعر الملحمي هوميروس، مثلا، فهما أسطورتين لأنهما كتبتا.
نخلص قولا بأن المناسبات المقدسة، بالرغم من الأشياء التي تحدث فيه ,والتي تكون جلها إن خفت المبالغة,أشياء خيالية و تيولوجية، ورجعية في بعض الوهلات.إلا أنها تقوم بدور كبير بالنسبة للإنسانية,وهذا الدور يتمثل في إعادة إحياء إنسان محب ,يتميز بالتلاحم والدفء ,وتخلخل النمطية والاعتيادية التي تكتمل في تفكير الشخص,بالإضافة إلى الحد من تبجح الإنسان بحريته واستقلاليته،وعدم خضوعه لأحكام واكراهات المقدس.