عندمــا يتقاسم الناس بلدا ما فهم فيه سواء بالربح والخسارة والموت والحياة، طالما اعتنى بعضهم ببعض بمحددات الدستور والتسوية أمام القانون والقضاء، وترسيخ موروثات المبادئ والقيم والأعراف المعتبرة المشكِّلة للشخصية كلُّ بخصائصه ومميزاته النفسية والإجتماعية وخصائصة الفكرية والمهنية، فإنهم يحصّنون أنفسهم بأمان الحقوق والواجبات وبتقويم الجزاء والعقاب، ويضمنون لأنفسهم فردا فردا حق الدين والجنس واللون السياسي وحق الإبداع الثقافي والحضاري دون استيعاب أو تدجين أوتهجين،والردع المتواصل لكل أشكال الصّلَف والإهمال في الخدمات الإجتماعية كالصّحة والتعليم والمصالح العموميّة والخُصوصيّة، يقول الله تعالى:"وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (117) هود، وعن ابن عبّاس رضي اللّه عنهما أنّ نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الهَدْيَ الصّالحَ والسّمتَ الصّالحَ والاقتصاد جزءٌ من خمسةٍ وعشرينَ جزءًا من النّبوّة" رواه أبو داوود وأحمد بسند حسن وصححه الألباني.
ومع تنامي ظاهرة الهجرة السرية في بلدنا مؤخرا يطفو إلى الواجهة سؤال جَسُور جسارةَ ما يقع من أحداثَ تحزُّ في النفس وتبعث على الأسى و الإضطراب وعدم الثقةِ والرضا عند المغاربة على وطنهم الذي ولدوا فيه، فماعسانا نفهم أو نستوعب من سؤال الإنتماء للوطن؟ وما الذي يدور في خلد الراعي و"الرعيّة"عندما يخضر الوطن على البال؟ وهل يحق لنا أن نَسِمَ المواطنين بالرعايا؟
لعــل من بين العلائق التي تربط الإنسان بوطنه ولادتُه وترَعْرعُه به طفولةً وصَبْوةً وتشبّبًا " الوطن هوالمنزل الذي تقيم فيه،وهو موطن الإنسان ومحله "لسان بن منظور،الشيء الذي لا يغنيه عن حاجياته العقلية والبدنية المتلازمة والمتلاحمة دائما وأبدا للكرامة والعدل اللذان يوطنان النفس على وطنية حقّة تكفي هو تقيه من أي عيب نفسي أو اجتماعي يحيل دون أداء واجبه الوطني دون خلفيات مقيتة ونقائصمهما كانت دقيقة، ومن هذه الحقوق مثالا لاحصرا :تعليم ممتاز،خدمات صحية آنية ومتجددة،وتشغيل معتبر، عدل ومساواة،وتكافؤ للفرص،توفير لآليات التنمية الذاتية وليس توزيع اللصدقات والرّيع، والإشباع المتكامل لحياة كريمة تحتضن وطنية تروى بعين الرضا والترضِّي كمحضن أم برضيعها لا تغفل عنه طرفة عين حرصا وتعهّدا، فالبلد محضن والحاضن هو الدولة بكل مفرداتها العليا والسفلى، تعلقَ انتماءٍ وهُوِيّة ولغة وعادات وتراث مشاركة تبدأ من وجع المخاض وبذل العطاء إلى واجب الولاء والبراء والتضحية بالنفس دون الوطن،هذه العلائق الحميمية بين المواطن والدولة/الوطن قد تخبو ويخفت وهَجُها إذا ما شابها غدر قاتل أو خيانة قاصمة سرعان ما تتفكك بتفكك روابطها وإن بدت وثيقة الأواصر والجذور، ومن أهم السموم التي تشتت المجتمعات، مظاهر الفوارق الطبقية بالغنى الفاجر والفقر القاهر التي يسري مفعولها في نفوس تخصّبت حتى الثّمالةِ من جرّاءِ الجرعاتِ العاليةِ قصْفا مُتواليا من فيروس الحُكرة والهوان وداء التسلط البغيض،"فالناس سواسية كأسنان المشط".
فمـــــا الهجرةُ السرية إلا نوعٌ من أنواع الرفض والسُّخط عند بعض المغاربة على الأوضاع المُزرية نتيجةَ سوءِ التدبير السيّاسيِّ والاقتصادي، فالمسؤولُ المغربيُّ أينما تُوجِّهْهُ لا يأتي بخير إلّا لنفسهِ وأهله، الحالة النرجسّية التي كرّستْ هذه الممارسات الماراطونية واللاّ مُبالية قناعةً لدى المغاربةِ وخصوصًا الشباب عبر سنوات الإهمال والتهْميش، زيادةً على الزّن والدّق والدّك بالإحتكار وغلاء الأسعار تارة وتنويمات مجازية ملونة بآلاف المُلهيات للجماهير التائهة تارة أخرى، انشرخت على إثرها فجوةٌ سحيقةٌ بين مواطنٍ وآخر هذا راعٍ وهذا "رعية"، هُوّةٌ ولّدَت أسئلةً جوهريةً أهمُّها سؤالُ الإنتماءِ والهُوِيّة للوطن الذي يجرّ خلفه انتظارات شعب ضائع وأسئلةً مصيرية جواباتُها جاءت للأسف عكسِيّة لما يرْتجِيه ملايينُ الشبابِ والأجيالِ الصاعدة.
بالملح نداوي ما دبَّ الفسادُ بِهِ ***** فكيف إذا دبَّ بالملح الفسادُ
عندمــــا تتحول الثروة الوطنية فريسة ومغنما ومغرما للمسؤولين في الدولة فمن المؤكد أنهم فقدوا معنى المواطنة وروحَها هذا إن كانوا قد اكتسبوها فعلا، وأنهم ما أقدموا على فعلتهم هذه إلى بوازعِ فوْقيّتِهِم على القانون أو بوازع صُحبةٍ أو رُفقةٍ تُؤيّدهم وتُعينهم أو نظام يحميهم ويمهّد لهم السّبُل،يقول الكواكبي: "أما المستبدون فلا يهمهم إلا أن تستغني الرعية بأي وسيلة كانت".
هكذا أعلنها الفاروق عمر رضي الله عنه مدويّة صدّاحة في وجه كلحاكم أو والٍ خوله مواطنوه تدبير أمور دنياهم كفاءة ومعروفا لا محاباة وتحيّزا، "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟"، والحاكم اللبيب ينظر إلى مواطنيه بعين التقدير لا بالاستخفاف والاستعلاء ويقدّر الأمور بمآلاتها استجلابا للنفع العام ودرءا لشر يوشك أن يأتي على الأخضر واليابس، فبقدر صلاح الحكام تصطلح الشعوب والفساد ذو شجون.