حفيظ الزهري: جنازة تعليم.. قصة زهرة الطفلة التي تستحق رد الاعتبار..

حفيظ الزهري: جنازة تعليم.. قصة زهرة الطفلة التي تستحق رد الاعتبار.. حفيظ الزهري

أتذكر اليوم الذي افتتحت فيه مدرسة الدوار الابتدائية، أطفال في قمة الأناقة مرفوقين بأمهاتهم وكلهم فضول لاكتشاف ذاك المجهول ما وراء السور وداخل الحجرات. دخل التلاميذ والهرج والمرج والأصوات الطفولية تتعالى من هنا وهناك، أمهات ينادين على أبنائهن: "وا مصطفى عندك توسخ حوايجك".. "غزلان مسحي خنونتك"... وأخريات يتجاذبن أطراف الحديث والنميمة، حيث قالت لهم رقية: "مابقات قرايا تعرف تقرى لبرا باركا عليها.." حيث عارفة بنتها غادي إجيوها لبراوات تهمس الغالية في أذن رابحة الأخيرة التي ترد عليها بضحكة سمعها أهل الدوار قائلة: "غادي اسيفطها ليها أليخاندرو" (للتذكير أليخاندرو هو عاشق كوادالوبي بطلي مسلسل مكسيكسي في ذاك الزمان).. وأخرى تسأل جارتها عن ابنها محمد الذي لم يحضر صحبة أخته زينب، فأجابتها أنه سيحظر بعد عودته من رعي الغنم راه "ماطفروها اللي قراو قبل منو، راه ولاد الحاج محمد شدو ليسانس باركين فقهاوي..."

الفتيات أكثر عددا من الأطفال، لا أعرف لماذا هذا الاستثناء، ربما كلهن راغبات في التعلم من أجل قراءة الرسائل فقط!! صعب جدا أن تنقع بعض العقليات الذكورية بمتابعة الفتاة لدراستها خارج الدوار. مكان المرأة هو دارها عند راجلها، هكذا يعلق عمي حميدة دائما محافظ في فكره لكن صعلوك في سلوكياته، يكفي أن تجلس معه لدقائق حتى يحكي لك مغامراته مع الجنس اللطيف حيث يبدأ كلامه بـ "حاشاك..." كلما تكلم عن المرأة، ويختم كلامه بنتي وامراتي لن يغادرا باب الدار...

في ظل غياب الجرس يظهر معلم يحمل عصا في يده وبصوت مرتفع "ديرو الصف"، محاولا إثبات شخصيته "راه نهار الأول إموت المش" كما يقال. هدوء معلم يظهر أنه مازال لم يتوصل بأجرته من خلال هندامه إنه حديث التعيين بالتأكيد سيتكلف أهل الدوار بأكله وشربه ومسكنه.

دخل التلاميذ القسم الوحيد في انتظار استكمال أشغال القسم الثاني، مدرسة بلا مرحاض لكن حظ التلاميذ وجود بعض الأشجار بجانبها قد تسهل عملية قضاء حوائجهم البيولوجية، المعلم يظهر ملامح الجدية للتلاميذ، والأمهات معتصمات في الساحة ينتظرن ما سيقع.. طلب المعلم من التلاميذ الإجابة عن سؤال: أين قضيتم العطلة.. ولا أحد أجاب ولا من مجيب، لا لشيء إلا لأن مفهوم ومصطلح العطلة له مرادف وحيد هو عدم التوجه للمدرسة والاقتصار على اللعب.. ويبقى السوق الأسبوعي المتنفس الوحيد.

من منكم حافظ شي نشيد، يسأل المعلم التلاميذ.. وقفت زهرة البريئة واثقة من نفسها رافعة أصبعها في وجه المعلم: "أنا أنا أنا أستاذ". فقال لها المعلم "تفضلي أبنتي". جمعت زهرة قوتها مستقيمة يديها على صدرها وبصوت مرتفع بدأت نشيدها (المسكينة): "هاي هاي وهاذي كذبة باينة.. هاي هاي وقول الحق الموت كاينا". لتوقفها ضحكات زملائها واستهزاؤهم منها، والمعلم تدمع عيناه من الضحك.. المساكين لم يكونوا يعرفون أن زهرة كانت من المفروض أن يكون دخولها هو موسم 2018، حيث سيكون لنشيدها معنى في مقررات تعليمنا. زهرة ولدت قبل موعدها، دخلت للمدرسة قبل موعدها، غنت نشيد "هاي هاي وهاذي كذبة باينة" قبل موعده، استهزأوا منها.. زهرة استشرقت المستقبل مستقبل تعليمنا... الذي سيصبح فيه فن العيطة نشيدا، ويصبح البغرير درسا تربويا، والبندير نشاطا علميا... ألا تستحق زهرة رد الاعتبار ... ألا تستحق زهرة الإنصاف؟؟؟

جنازة تعليم.. إنا لله وإنا إليه راجعون...