أخي أختي القارئ(ة)، صحيح ستجد لهجتي شديدة في مقارعة الفكر الموروث، ولكن تأكد أن نيتي تتجاوز ضرب المعتقد أو مس المقدس، فلا تؤاخذني بفهمك، لأنه سيكون ناتجا ليس عن أفكاري المبثوثة هنا فقط، بل سيتولد عن تفاعلها بتمثلاتك.
إننا، نحن العرب والمسلمين، نتفاخر كثيرا بالماضي والتاريخ المجيد، وهذا الماضي الذي بين أيدينا تطغى عليه الأساطير كثيرا، ونفخت فيه المخيلة الشعبية الواسعة على مدى قرون حتى جعلت التاريخ العربي الإسلامي كالبالون، ضخم وكبير، لكنه فارغ المحتوى وسهل الضياع، وهذا خلق عندنا انفصاما خطيرا في الشخصية، إذ منا من يقدس هذا البالون ولا يراه إلا من الظاهر ويريد الحفاظ عليه كما هو ما أمكن، مدافعا ومهاجما، وهم كثر، وهم أصدق من قصده الشاعر بقوله: "ليس الفتى من يقول كان أبي"، بل وإن منهم من ودَّ لو أعاد الماضي، وإن من الناس من يعيش الماضي في القرن الحادي والعشرين ويرغم الناس على اتباع نهجه، وهنا نذكر على سبيل المثال المفتي الوهابي الذي لا يزال متشبثا بثبات الأرض ودوران الشمس، وأما المتبصرون فقد رُمُوا على الدوام بالزندقة والإلحاد فقتلوا ومزقوا وأحرقت كتبهم. ولا يزالون...
والحق أن هذه الوضعية التي نحن، الآن، فيها عادية، ولها تفسير منطقي بسيط: لقد استفقنا من سباتنا التاريخي العميق فوجدنا الأمم قد تجاوزتنا بسنوات ضوئية، والأخطر في هذا التقدم أنه بني على تجاوز الدين (عصور التنوير والإصلاح الديني) الخطوة التي تكاد تكون مستحيلة بالنسبة للعربي (خاصة الحكام) الذي يرى أن الدين هو المثبت الوحيد لأقدامه على الأرض. وإن الأنكى من هذا وذاك أن هناك بعض الأصوات التي تقول أن تأخرنا وتقهقرنا في السلم الحضاري ما هو ناتج إلا عن ابتعادنا عن الدين، وعدم فهمنا له، ويرفضون كل صوت ينادي بإخراج الشيخ ذي العمامة من السياسة ومراكز القرار والرقابة، ويرفضون قيام النظام العلماني، والدين عندهم هو الحياة، والدين أكثر من عقيدة وعبادات إنه شريعة أساسها الحكم لله وحده وللخليفة بعده، وحجتهم أن الدين الإسلامي كما هو في النصوص المقدسة شامل لكل حياة الإنسان وصالح لكل زمان ومكان، وهو مصدر الأخلاق.
وأنا أود أن أسير على خط السلفيين النائمين/ اليقظين على عتبة الماضي، وأمضي إلى إحياء الماضي البعيد أكثر، وسأضيئ طريق رحلتي في دهاليز الماضي بمصباح العلم والشعر والتاريخ، وما توفر من قصص نسجتها المخيلة الشعبية.
ولأبدأ طريقي أرى أنه يتوجب علي كسر الكثير من الأصنام ولأن رحلة العودة تبدأ بخطوة، فخطوتي الأولى سأضعها على عنق هذا الصنم المسمى الخلافة العثمانية، والتي أرى أن بالونها يتفرقع بمجرد وصول مصباحي، ستة قرون من السيطرة على نصف العالم ولم تعطنا إلا سلاطين يتحاربون من أجل القصور والحريم والخلاعة، ستة قرون دون أي عطاء، وقبلها الدولة العباسية خاصة في المرحلة الأخيرة، مرحلة الخلفاء الكراكيز وحكم السلطان السلجوقي، تلك النار التي هبت عليها ريح المغول فأطفأتها، وكانت من قبل قد دمرتها الحروب الصليبية، وأما فترة حكمهم الأولى فقد قامت على القتل وإغراق الجميع في حرب مدنسة، والذي يتحدث عن الأخلاق والحكايات التي نسجت عن بعض الخلفاء نذكره أنه قد اجتمع لبعض الخلفاء المئات من الحريم والجواري بل والغلمان... وقد ازدحمت حواشي الحواضر الإسلامية بالحانات ودور الدعارة بشكل لن تجده اليوم في المدن الهامشية لأكثر الدول تخلفا. وبدخولي هذه السراديب أجد أن رائحة نتنة تزكم أنفي، رائحة الجثث المحترقة، والمصلوبة، والمسحولة، رائحة الخيانة والدعارة التي صارت مقدسة. وهنا أقترح على القارئ الذي يرغب في تمحيص هذه المقولات إن شك فيها أن ليقرأ كتاب الأغاني للأصبهاني، والكامل، الذي أرخ حقبة الحروب الصليبية، أدعوكم إلى قراءة التاريخ بحيادية أكثر، إليكم الشعر. والشعر بالإضافة إلى كتاب الأغاني يلخص الحياة في العصور "الذهبية" ولاسيما الحقبة الأموية، حيث نقف على حرب صفين، الحرب التي تعود بعض جذورها إلى حادثة الإفك التي حدثت عهد النبوة، وحفاظا على شعور المسلمين سأقف عند هذا الحد وأذكركم بقصة زياد ابن أبيه الحاكم الأموي ابن الزنى، والحروب التي تلت توليه الحكم، ولننتقل إلى البلاط الأموي مع الشاعر الأخطل الذي كان ينادم خليفة الله. وأنا لا أريد الحديث عن الحقبة النبوية، ولكن ما نقل التاريخ عن الكيفية التي تم بها تدبير خلافة أبي بكر الصديق تستفزني كثيرا، ثم كيف لأشخاص قريبي العهد بالنبي أن يحلوا مشاكلهم بالاغتيالات، والأخطر أن العمليات الاغتيالية طالت ثلاثة خلفاء راشدين...
ولأني في مقالتي هذه لا أريد إلا تكسير الأصنام المقدسة، فقد جئت عليها سريعا، وأرى أنها انهارت أمامي دفعة واحدة، ولم يبق لي إلا أن أزفر على شمعة ابن تيمية لتنطفئ ويركع محتشما.
وليكن رجوعنا إلى الماضي مثمرا، فلنا أن نرجع خطوة إلى الفترة التي سبقت الإسلام، الفترة التي ظلمت لأزيد من أربعة عشر قرنا، وسنقيسها بمقاييس ومعايير حديثة لما نُكَيِّفُها مع شروط تلك المرحلة. إن أغلب ما يؤخذ على تلك الفترة هي الحروب القبلية، صحيح كانت حينها حروب، ومتى توقف الإنسان عن هذا النشاط الغريزي؟ ولكن لا بد من التأكيد على أنها حروب لو كشفنا عنها الستار فقد كانت تتغيا توحيد جزيرة العرب خاصة على يد التغلبيين، وأما غيرها من الغزوات وحروب الثأر فكانت استثناء لا قاعدة، أما القاعدة فالرغبة في توحيد شبه الجزيرة العربية، وللتمثيل على ذلك نأخذ الشعر حيث نرى مع الدكتور مصطفى ناصف أن مجرد نظمه باللغة القرشية على اختلاف اللهجات يمثل دعوة مثقفي العصر(الشعراء) إلى الوحدة. وقد عرف العرب حينذاك ازدهارا اقتصاديا تمثل في نشوء الأسواق والتجارة ورحلتي الشتاء والصيف، وإلى جانبه ازدهارا في الحركة الثقافية، والدليل على ذلك إقامة الأسواق الأدبية كعكاظ، والتي تنافس أبرز المهرجانات المعاصرة. لولا فارق الزمن والشروط وما مجادلة القرآن الكريم لهم إلا اعتراف بمستواهم الثقافي والمعرفي... ولو أردنا جرد مظاهر الازدهار في كل مناحي الحياة لما كفتنا هذه الصفحات، ولكن جئنا بها مختصرة مقطوفة للتلميح، ولمن أراد التمحيص أن يعود إلى الشعر، لماذا الشعر؟ لأنه باختصار محور الثقافة العربية، وكما أقر بذلك عمر بن الخطاب "ديوان العرب"، ولو أخذ الناس بالقرآن والحديث حرفيا لهجروا الشعر (لأنه قال عن الشعراء، باستثناء المدافعين عن الدين، أنهم في كل واد يهيمون، وقال عن امرئ القيس أنه حامل لواء الشعراء إلى جهنم).
وربما يؤخذ على العرب الجاهليين ضعف الأخلاق، وما هذا إلا قول بهتان، وأُريدَ به تزيين الإسلام كنقيض إيجابي عن الجاهلية. إليكم بعض الأخلاق الخلوقة من شعراء العصر الذهبي الحق: فهذا، على سبيل المثل، عنترة يخبرنا عن حيائه وحسن جواره: وإني لأغض الطرف عن جارتي إذا ما بدت حتى يواري جارتي خباؤها.. وغيره كثير لا يليق المقام بجردهم جميعا. أما قضية وأد البنات فأخذ بالشاذ لحاجة في نفس يعقوب، وإنه لأمر مضحك أن نصدق أن العرب كانوا يدفنون بناتهم جميعا، وإلا فمن أنجب العرب؟ وأما القتل والخنق والاغتصاب فهو ما نراه اليوم على يد حاملي الفكر السلفي.
خصلة أخرى لا بد من الاعتراف بها في ختم هذه المقالة هي التسامح والتعايش ونكتفي بالتذكير أن البيئة التي ظهر فيها الإسلام كانت بيئة منفتحة تقبل بالتعدد داخل الوحدة. ولو كان عرب التنوير لا الجاهلية كما ندعوهم على نصف قدر ما هم عليه الآن من التشدد لدين الاجداد لما كان هناك ما يدعى الإسلام اليوم في هذه البسيطة.
ترانا ألسنا في هذه الفترة التي نحن فيها في أمس الحاجة إلى بعث ذلك الماضي الذهبي، وإعادة إحيائه، عبر تنقيحه طبعا، أقلها لنستخلص الدروس، ولنا في الثقافة الغربية الحالية مثال وقدوة، إن من بين ما قامت عليه الثورة العلمية الغربية هو ضرب التقاليد والقواعد الأرسطية وإحياء التراث الأفلاطوني.