مذكرات سجين موريتاني في سجون البوليساريو: ليلة في السماء (9)

مذكرات سجين موريتاني في سجون البوليساريو: ليلة في السماء (9)

في هذه الحلقة الثامنة من مذكراته، يستمر محمد فال القاضي اگاه، سجين موريتاني سابق بسجون البوليساريو، ورئيس منظمة ذاكرة وعدالة، في استرجاع الطريق التي أوصلته نحو مخيمات تندوف بالأراضي الجزائرية سنة 1979.. والتي عنونها برحلة الجنوب نحو الشمال..

"خرجنا من مخفر الشرطة وتم نقلنا على دفعتين، حيث أن السيارة التي يستقلها مستقبلنا كانت صغيرة لا تتسع لنا جميعا، وحين وصلنا إلى الفندق الذي تتخذ منه البوليساريو مقرا لمكتبها، جهزوا لنا غرفة كبيرة بملحقاتها وزودونا بمستلزمات الشاي، وقد ألح مسؤول المكتب نفسه (داهي ولد ابنيجارة) وكان شابا لطيفا بأن يعد لنا الشاي بنفسه، وحين رفضنا خرج وطلب منا أن نخبره إن احتجنا لأي شيء، وأن نحاول أن نستريح قدر المستطاع لأنه أمامنا غدا رحلة طويلة وشاقة.

في مساء اليوم الموالي، وكان يوم العشرين من أبريل 1979، انطلقنا نحو المطار بصحبة مرافقنا الجديد وجلادنا في المستقبل (احمد سلامة أبريك).. وفي المطار أذكر أنه عندما هم أحد أفراد الجمارك بتفتيش أمتعتنا اليدوية احتج عليه بأنها أمتعة دبلوماسية، فأشفقت على الدبلوماسية من نعل مغبر كان مدسوسا تحت الملابس وكأن ذلك الجمركي اطلع على ما كنت أفكر فيه، فأخرج ذلك النعل الذي ليس غريبا علي ورفعه وهو يبتسم ساخرا: "هل هذه أمتعة دبلوماسية؟".

بعد عملية التفتيش "الدبلوماسية" المهينة تلك صعدنا، وأقلعت بنا طائرة الخطوط الجوية الجزائرية في حدود الساعة السادسة مساء، وكانت شبه خاوية، إذ أنه باستثنائنا نحن الأربعة ومرافقنا لم يتجاوز عدد الركاب خمسة أشخاص فقط، بل أننا سنكتشف لاحقا أن أحد هؤلاء الركاب الخمسة هو شاب موريتاني من قومية (الولار) يدعي أنه "معارض للنظام الموريتاني"، ومن خلال انزعاج مرافقنا من الحديث معه عرفت أن ثمة سر في الأمر لا يريدنا أن نطلع عليه، وخلال حديثي المقتضب معه حدثني عن التمييز ضد الزنوج في موريتانيا وعن رسالة 19 إطارا زنجيا التي صدرت سنة 1966.

حين صعودنا للطائرة كنا نعتقد أن الرحلة لن تستغرق ليلة كاملة غير أنها استمرت حتى الساعة السادسة من صباح اليوم الموالي 21 من أبريل 1979، اليوم الذي سيكون بداية التحول الدراماتيكي في حياتي وحياة العشرات من الموريتانيين الأبرياء الذين سيصبحون ضحية لقيادة نظرت إليهم كألذ أعدائها وبتمالئ أو على الأقل بعلم ممن يحكم بلادهم.

كانت المحطة الأولى لنا في مطار نيامي بالنيجر حيث نزل الركاب الأربعة الذين كانوا على متنها وبعد انتظار فترة ليست بالقصيرة صعدت معنا سيدة واحدة متوجهة إلى العاصمة المالية بماكو، والتي ستكون محطتنا الأخيرة قبل الجزائر، وحين أقلعنا منها تقدم أحد أفراد الطاقم ليقدم اعتذارهم لعدم التمكن من تقديم أية وجبة بسبب عدم توفر الطعام في المطارات التي توقفنا فيها، وبعد الاعتذار قدموا لنا بعض المكسرات والبسكويت وقنينة ماء صغيرة لكل واحد منا، بعدها أصبح لدينا الوقت لينام كل واحد منا على صف كامل من المقاعد لوحده فتلك الطائرة الطويلة العريضة لم يعد على متنها سوى أفراد الطاقم ونحن الأربعة مع مرافقنا وذلك "المعارض" الغامض".

(يتبع)