عبد القادر زاوي : الأزمة في المغرب.. كثرة المؤسسات أعباء ومشكلات

عبد القادر زاوي : الأزمة في المغرب.. كثرة المؤسسات أعباء ومشكلات عبد القادر زاوي

لم يعد بمقدور أي أحد أن ينكر وجود أزمة في المغرب، حتى أولئك الذين ساهموا في إيصال الوضع إلى ما هو عليه الآن، والمستفيدون طبعا منه لا يحاولون سوى التخفيف من حدة وقع الأزمة، أملا في أن يساهم عامل الزمن في تقليص حدة الاحتقان الاجتماعي الناجم عنها وامتصاص النقمة التي يولدها.

إنها أزمة عامة تطال جميع الأنشطة السياسية والاقتصادية والتجارية والاستثمارية والثقافية ومنظومة القيم الاجتماعية دون أن تفلت من براثينها العديد من ملفات السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. فالبلد في سعيه إلى إقناع العالم بأنه يشكل نموذجا استثنائيا في مجال الاستقرار والتنمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الملتهبة لم يتمكن من إقناع أهله أنفسهم ؛ الأمر الذي جعل الأزمة تتفاقم، والتذمر الشعبي منها يتصاعد.

وغير خاف على أحد أن التحذير من هذه الأزمة ليس وليد اليوم، قام بذلك العديد من الخبراء، ونبهت للنفق المسدود العديد من المؤسسات الوطنية والدولية كل في مجالها، بل إن المؤسسة الملكية المؤتمنة دينيا وتاريخيا ودستوريا على البلاد ومستقبلها أقرت بوجود الأزمة من خلال إعلان صريح في خطاب أمام البرلمان بمجلسيه في افتتاح السنة التشريعية 2017 /2018، أشار فيه جلالة الملك بعبارات لا تحتمل اللبس إلى فشل النموذج التنموي المتبع في المغرب.

في ذلك الخطاب لم يكتف جلالة الملك بتوصيف مظاهر الأزمة والتحذير من مغبة التصرف على أساس تجاهلها، وإنما دعا المؤسسات المعنية وكل المهتمين والمتابعين إلى بلورة نموذج آخر أكثر قدرة على التجاوب مع تطلعات المواطنين ولاسيما الفئات الشابة الغارق معظمها في براثين اليأس والإحباط، يستوي في ذلك المتعلمون من حاملي الشهادات العليا، وأولئك الذين أجبرتهم الظروف على مغادرة مقاعد الدراسة مبكرا.

ورغم أن عاهل البلاد كرر مرة أخرى المطالبة بالبحث جديا وبعمق في بلورة نموذج تنموي جديد للبلاد يخرجها من براثين الأزمة الراهنة في مختلف أبعادها، فلحد الساعة لم تشهد الساحة السياسية والفكرية في المغرب أي نقاش معمق عام، وأي حوار جدي ومسؤول في هذا الصدد.

الأخطر من ذلك أن الحكومة المفترض فيها ريادة النقاش العام في هذا الموضوع اكتفت بالتلاعب بالكلمات واتخاذ بعض الإجراءات القريبة من المسكنات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وأعفت نفسها من قيادة المبادرة في هذا السياق، وذلك في وقت تعيش البلاد في حالة انتظار قلق يتحدث الجميع عن سلبياتها في عجز واضح عن السعي نحو تبديدها وإشاعة ولو بصيص من الأمل لدى المواطنين.

إن هذا السلوك الحكومي يتناقض جملة وتفصيلا مع جوهر الخطب الملكية التي ارتدت ثوب تحليل عميق وتقييم دقيق للسياسات العمومية في نبرة وأسلوب استثنائيين يرقيان إلى خطورة الظروف والأوضاع. وغني عن الذكر أن هذه الأوضاع تبدو مأساوية تميزها ردة حقوقية، وتدهور مريع للخدمات العمومية (الصحة والتعليم ...)، وتمدد لافت للاحتجاجات الاجتماعية في شكل حراكات جهوية (الريف، جرادة، زاكورة ..) وفي شكل مقاطعة جماهيرية لعلامات تجارية اعتبرت أنصع صورة عن تحالف السلطة والمال المرفوض من طرف قطاعات شعبية واسعة؛ ناهيك عما يكتشف يوميا من خلايا إجرامية وإرهابية.

ومن غير المنتظر لا من الحكومة بتركيبتها السياسية والنخبوية الراهنة، ولا من نخب الدولة العميقة التي تستحث الخطى وراءها أن تستطيع الخروج بالبلاد من المتاهة الموجودة فيها ؛ لأن الأزمة هي أزمة بنيوية وليست ظرفية، انعدمت أمامها هوامش المناورة، وتفجرت من خلالها حدة التناقضات بين قوى اجتماعية، فكرية واقتصادية تريد بناء مجتمع حداثي ديمقراطي قوامه حرية المنافسة وتكافئ الفرص وتمكين الكفاءات، وترسيخ الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ؛ وبين مؤسسات وسلطات وجماعات مصالح ترفض أن تتخلى عما تعتبره مكتسبات مادية ومعنوية يكرسها منطق الرعية، وتدبير الشأن العام وفق قواعد المحسوبية والزبونية والولاءات.

صحيح أن الخروج من عنق الزجاجة وتجاوز النفق المظلم ليس هينا، فالإخفاقات الراهنة هي نتاج تراكمات من سوء التسيير والتدبير، والإسراف في التبذير، كما أن الإحباط الشعبي الذي ولدته كبير ؛ ولكن المهمة ليست مستحيلة، إنها تتطلب توفر إرادة التغيير وبث روح أمل جديد لدى مختلف طبقات المجتمع وشرائحه عبر قرارات يستشعر الناس من خلالها جدية التحرك وعمقه، ولا يرونها مجرد ذر للرماد في العيون.

والواضح أن القرارات ذات الوقع والأثر الكبيرين والإيجابيين بالنسبة للرأي العام المغربي ستكون تلك التي تتخذ لتقليص جدي للإنفاق داخل المؤسسات التشريعية والتنفيذية عبر ترشيد وترشيق تلك المؤسسات، وذلك نظرا للموقف الشعبي السلبي الذي يرى معظم ما يصرف في هذه المؤسسات مجرد إهدار للمال العام ، وريع مقنع في شكل هيآت بلا صلاحيات غير تلك المرتبطة بدور لها في الديكور، الذي يراد تسويقه خارجيا تفاديا للضغوط المختلفة.

إن ضخامة أعداد المنتسبين إلى هذه المؤسسات، والامتيازات الممنوحة للقائمين عليها، وبطء المساطر البيروقراطية التي تميز عملها، وضحالة وميوعة ما يصدر عنها من قوانين وقرارات تجعل من منها  مجرد Extractive institutions  أي مؤسسات طاردة ومنفرة (الترجمة اجتهاد شخصي يحتمل الخطأ)  وفق النظرية التي طورها Daron Acemoglu و James A.Robinson في كتابهما Why Nations fail : The origins of power , prosperity and poverty. .

وحسب هذه النظرية فإن المؤسسات الطاردة أو المنفرة (مفهوم المؤسسة هنا يشمل الهياكل الإدارية وكذا القوانين والقرارات الصادرة عنها والمساطر المتبعة فيها) تعرقل وتكبح الإبداع، ولا تحمي بما فيه الكفاية الملكية الفكرية والمادية لأصحابها، بل إنها لا تتورع في اختلاق العقبات أمام الاستثمار وتمنع بروز الأفكار الجديدة الخارجة عن النسق المعهود لدى هذه المؤسسات. فهي بذلك بالنسبة للمجتمع عالة وليست آلة.

ويعود ذلك إلى أن مثل هذه المؤسسات تعمل في العادة على تأبيد استمرار مجموعة صغيرة من الناس في استغلال الأكثرية المطلقة للشعب عكس ما يحصل مع ما يسميه الباحثان inclusive institutions أي المؤسسات المحفزة التي يجري من خلالها دمج أغلبية السكان في تسيير الشؤون العامة فعلا، وذلك من خلال مؤسسات معقولة تراعي الإمكانيات ولديها من المرونة والكفاءة ما يشجع على الإبداع والمبادرة الخاصة القادرة على خلق نمو متواصل وتنمية مستدامة.

لا شك في أن مختلف المؤسسات في المغرب من النوع الطارد أو المنفر ولو بصورة غير مباشرة من خلال ما تعانيه من ترهل بيروقراطي قاتل ومساطر روتينية محبطة، ناهيك عن شيوع التسيب وانعدام الضمير في تحمل المسؤولية. لقد أوضح المجلس الأعلى للحسابات في تقريره عن أسباب تعثر برامج " الحسيمة منارة المتوسط" كيف أن تعدد المتدخلين أوقف أو عرقل بل وطمس العديد من المشاريع ؛ الأمر الذي خلق استياءا عميقا لدى الساكنة يعرف الجميع كيف انتهى مآله، وكيف أن ارتداداته ما تزال تلقي بظلالها على الوضع العام في البلاد، تؤرق الجميع، وتهدد المستقبل بأوخم العواقب في وقت يضاعف الركود التام الذي تشهده مختلف القطاعات الأزمة الاجتماعية المتفاقمة.

لقد وصفت بعض الإجراءات التي اتخذت بعد تقرير المجلس الأعلى للحسابات بأنها زلزال سياسي، وهي لم تكن كذلك. فالبلاد تحتاج فعلا إلى زلازل أكبر وأعمق من شأنها أن ترسل إشارات جدية، وأن تحدث رجات كبرى في العقليات، إشارات تطال تغيير القوانين والمؤسسات بتوزيع عادل وواضح للصلاحيات وليس للأدوار فقط.

أمثلة عديدة يمكن سردها على سبيل المثال لا الحصر عن كثرة المؤسسات الطاردة أو المنفرة المتضاربة في الاختصاصات، والضخمة في أعداد المنتسبين إليها، ما يجعل التساؤل مشروعا عن جدوى الكثير منها.

*على صعيد المؤسسات التشريعية :

/ أليس كافيا في الغرفة الأولى (مجلس النواب) انتخاب 5 نواب فقط عن كل مليون نسمة ما يعطينا 175 نائبا عن حوالي 35 مليون نسمة عوض 395 حاليا ؛ الأمر الذي قد يساعد في تقليص حدة النقاش والجدل الصاخبين الدائرين بين المؤسسات ولدى الرأي العام حول تعويضات هؤلاء النواب ومعاشاتهم.

/ إن امريكا بجلالة قدرها تضم غرفة برلمانها الثانية (مجلس الشيوخ) 100 عضو فقط عن أزيد من 350 مليون نسمة، فيما غرفتنا الثانية عدد أعضائها 120، وبالإمكان تقليص عددها كثيرا لتكون أكثر فعالية عبر إقرار التمثل فيها ب عضوين اثنين عن كل جهة من الجهات 12 وبخمسة ممثلين عن النقابات المهنية ومثلهم عن الغرف التجارية واتحاد رجال الأعمال ليصبح عدد أعضاء هذه الغرفة 34 فقط.

*على صعيد الأجهزة التنفيذية : لا توجد حكومات يتجاوز عدد أعضائها 30 عضوا إلا في بعض دول العالم الثالث حيث يسود مبدأ الترضيات الحزبية أو الشخصية والعائلية، وربما شراء الذمم.

/ إذا أحصينا كم مؤسسة حكومية تستعمل في تسميتها كلمة "ماء" سنجدها خمس أو ست مؤسسات إضافة إلى مكتب مختص. ومع ذلك الخصاص المائي رهيب في عدد من المناطق التي انتفض بعضها ضد العطش.

/ توجد ثلاث مؤسسات وزارية لكل أنواع التربية والتعليم، إضافة إلى المجلس الأعلى للتعليم، ويستحوذ هذا القطاع على ميزانيات ضخمة يتم صرف الكثير منها في شكل ندوات ومؤتمرات ولقاءات وتعويضات. ورغم ذلك ما نزال نتحدث بمرارة عن تدهور المدرسة العمومية وعن هدر مدرسي رهيب، وعن عدم ولوج نصف أطفال المغرب المدرسة من الأساس.

/ يطرح التساؤل دوما بين عدد من المختصين عن جدوى إحداث وزارة للجالية في الخارج في ظل وجود مديرية للشؤون القنصلية والاجتماعية بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي. فالواضح أن هذا الإحداث حصل لإرضاء هذا الحزب السياسي أو ذاك حسب ظرفية تشكيل الحكومة، سيما وأن المنظومة المؤسسية للجالية تعززت بوجود مجلس للجالية لا يعرف بعض المعينين فيه ماهية اختصاصاته أو دوره ولا حتى متى ستنتهي مدة تمثيلهم. هذا دون إغفال مؤسسات موازية ترتدي طابع مؤسسات من المجتمع المدني تعنى بظروف الجالية والهجرة. كل هذا لم يمنع من وجود أعداد كبيرة من أفراد هذه الجالية غير مرتاحة لنوع الخدمات المقدمة لها.

*على صعيد الجماعات الترابية :

/ بعد تجارب متعددة منذ سنة 1971 تأكد للمغاربة بأن مفهوم الجهة يمكن أن يشكل رافعة تنموية بإمكانها تجاوز البيروقراطية المركزية لتحقيق التنمية، ولكن بعد إقرار قانون وتقسيم للجهات متقدم نسبيا عن سابقيه لم يستسغ بعض المراقبين لماذا تم الإبقاء على المجالس الإقليمية غير أن تكون عقبة بيروقراطية بين المجالس المحلية البلدية والقروية وبين مجالس الجهات.

/ إن التجربة أثبتت أن المجالس الجماعات الترابية المنتخبة لن يكون بمقدروها لعب أي دور تنموي أو تشجيعي للاستثمار بحضور سلطة مركزية معينة هي التي لها اليد الطولى في القرار النهائي، خاصة وأنها تمارس وصايتها قبل وبعد القرار الجماعي، وتتحكم في شريان المال الذي يحول القرار إلى إنجاز. وما لم توجد آلية فعالة ومرنة لتقاسم الأدوار بينهما فإن التنمية المحلية ستظل مجرد شعار ليس إلا.

هذه مجرد عينة من مؤسسات تشكل عالة وليس آلة سقتها على سبيل المثال لا الحصر لتبيان بعض الأدوار السلبية التي تلعبها المؤسسات عندما تكون ذات طبيعة بيروقراطية طاردة أو منفرة Extractive institutions . وقد طرحتها في المقال كمساهمة متواضعة لفتح نقاش وطني عام حول السبل الكفيلة للخروج من الوضعية الراهنة المتسمة بالشلل والفشل.