القاضي الوردي يناقش علاقة "القرار القضائي" بالرأي العام، تأثر أو توجيه؟

القاضي الوردي يناقش علاقة "القرار القضائي" بالرأي العام، تأثر أو توجيه؟ القاضي حكيم الوردي، عضو نادي قضاة المغرب

أكد القاضي حكيم الوردي، عضو نادي قضاة المغرب، أن القوانين الجنائية في مختلف الأنظمة الديمقراطية اهتدت إلى أنه، لا سبيل لفرض الاحترام النسبي للأحكام القضائية إلا بتجريم تحقيرها. دون أن يعني ذلك تقديسها ومصادرة الحق في مناقشتها أو انتقادها، متى انضبطت المناقشة للصرامة العلمية، بما تفرضه من وجوب الإطلاع على حيثياتها وأسانيدها ومقاربتها داخل بنية إنتاجها، وسوق الدليل المقبول قانونا على فساد عللها، وهي حتما مهمة نخبوية لا تبوح بكامل أسرارها لغير العارفين بالمساطر القضائية. التي تظل – للأسف – بحكم طبيعتها التقنية المعقدة عصية الفهم على العامة.

وأضاف ممثل النيابة العامة باستئنافية الدار البيضاء في مقال مطول، تحت عنوان: "أزمة تلقي العدالة.. دروس بيداغوجية" توصلت جريدة "أنفاس بريس"، بنسخة منه، أن تحقير المقررات القضائية لا يعد قدرا محتوما على مجتمعات التخلف التاريخي التي يكبلها الجهل وتنخرها الأمية، ولكنها ظاهرة كونية حتى لدى الدول مضرب المثال في الرفاه والديمقراطية. فـ 91 % من الفرنسيين مثلا يعتبرون النظام القضائي صعب الفهم، و 61 % يرون أن القضاة ليسوا بالصرامة المطلوبة، و 54 %  يحملون صورة سيئة على القضاة وأحكامهم ( نتائج استطلاع للرأي أجرته مؤسسة IPJ منشور بالموقع الالكتروني لجريدة لوفيغارو الفرنسية بتاريخ 03/03/2014).

ففي الدول التي تحترم حرية الرأي والتعبير قلما يتم اللجوء إلى المقاربة الزجرية لقمع الانزلاقات العاطفية الماسة بالاحترام الواجب لقرارات القضائية، لاعتبارات متعددة لعل أهمها التماس العذر للجهل المتنامي بميكانيزمات صناعة الأحكام، وتسامي القضاة بحكم طبيعتهم الرصينة والمحافظة عن الجدال السياسوي والنأي عن التجاذبات المجتمعية، وتكوينهم القانوني الصارم الذي لا تنال منه انفلات مشاعر الجماهير من عقالها، فحكم القاضي المكتوب هو عنوان الحقيقة التي نطق بها طبقا للقانون داخل قاعة المحكمة..

لذلك مثلا لم يتأثر قضاة محكمة PAMPELUNE الاسبانية في أبريل 2017 بعريضة وقعها أكثر من مليون ونصف اسباني وبالمسيرات التي شارك فيها أكثر من 100 ألف شخص ولمدة 3 أيام احتجاجا على حكم اعتبر مخففا قضى بالسجن النافذ لتسع سنوات وغرامة 50 ألف أورو لكل واحد من الشبان الخمسة من أجل ممارسة الجنس على فتاة (18 سنة) معاقة ذهنيا وتصويرها بهواتفهم النقالة وتحميل الفيديو على الواتساب تحت عنوان "قطيع الذئاب"، استأنفت النيابة العامة الحكم، وسارعت حكومة المحافظين بقيادة ماريانو راخوي إلى إعلان شروعها في دراسة إمكانيات تعديل القانون الجنائي..

إن مناقشة حدود النقد المباح غير المتخصص للأحكام القضائية، وتخوم حرية التعبير في مواجهة الاحترام اللازم للقضاة وأحكامهم، هو بالجزم إشكالية حقيقية حتى في الأنظمة التي تُصَدر قيم الحداثة والديمقراطية. فبمجرد تحريك الدعوى العمومية تصبح ملكا للمجتمع فيتتبع إعلاميا مجرياتها ويتفاعل عاطفيا مع شخوصها إلى الحد الذي يعتقد معه أنه يملك شرعية الحكم الصائب على الأحكام الصادرة في موضوعها.

إن ترسيم استقلالية السلطة القضائية بتقاليد عريقة في الممارسة لم يمنع القضاء الفرنسي من الدخول في مواجهة تصحيحية بالبيانات الصحافية والأحكام القانونية من أجل التصدي للإهانات التي يتعرض لها بين الفينة والأخرى لاسيما من بعض رجالات السياسة. ففي مارس  2013 أحالت النيابة العامة بابتدائية باريس الكبرى السيد HENRI GUANIO البرلماني عن حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية UMP ومستشار الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي على الغرفة  17 بالمحكمة الجنحية من أجل إهانة القضاء وتحقير مقرر قضائي، بناء على الشكاية التي تقدم بها اتحاد نقابات القضاة USM ( النقابة الأكثر تمثيلية ) في مواجهته إثر التصريحات الصحافية العديدة التي أدلى بها معتبرا المتابعة التي حركها قاضي التحقيق Jean Michel Gentil  في مواجهة ساركوزي في ملف مالكة شركة التجميل لوريال  Bettencourt بمثابة إهانة لفرنسا وعار على جبين القضاء..

لقد بات جليا أن تزايد منسوب الاحتجاج ضد العدالة لا يمكن مقاربته دائما وفقا آليات القانون الجنائي، وإنما ينبغي أن يعالج بأساليب بيداغوجية تروم التذكير بقيم الدولة الديمقراطية القائمة على احترام السلطة القضائية مهما بلغت درجة الاختلاف مع أحكامها.

بهذه الخلفية أصدر قضاة فرنسا (الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام للملك لديها الرؤساء الأولون لمحاكم الاستئناف بفرنسا، والوكلاء العامون للملك لديها)، بلاغا بتاريخ 02/03/2017 في مواجهة الاتهامات المتزايدة لعمل القضاء من طرف بعض الفاعلين السياسيين، ذكروا فيه بأن للقضاة الحق في البحت عن الحقيقة حسب قواعد المسطرة الجنائية والقانون الجنائي بكل تجرد واستقلالية، وأن احترام القضاء يتأسس على الثقة التي ينبغي أن يضعها كل مواطن في المؤسسات الدستورية لبلده.

ولأنها مبادئ كونية تردد نفس المعنى لدى رئيس نادي قضاة مصر حين شدد على ( أنه لا يمكن ولن يحدث أن يصدر القضاة الأحكام القضائية تحت ضغط شعبى ومظاهرات وهتافات، لافتا إلى أن هذا الأمر يهدد دولة القانون واستمراره يعنى هدمها، خاصة أن دولة القانون من مقوماتها الأساسية احترام القضاء وأحكامه، ودعم استقلال القضاء، مؤكدا ضرورة أن تتوقف هذه المظاهر، لإعطاء القاضي فرصة لأن يعمل ويفكر في هدوء.

وبالتالي يجب على القضاة أن يقوموا بواجباتهم وفق ما ترشدهم إليه ضمائرهم. ورغم خضوعهم في ذلك لمساءلة الرأي العام، إلا أن أي انتقاد للنظام القضائي أو القضاة من شأنه أن يعرقل إقامة العدل، أو يضعف الإيمان بالنهج الموضوعي للقضاة، أو يضع إدارة العدالة في موضع السخرية، لا يجب أن يُسمح به. ومثل هذه المحاولات هي التي تتم مواجهتها بالإجراءات المعروفة بإزدراء المحكمة، ولكن انتقاد الأحكام يظل جائزاً ومشروعا. لا ينبغي أن يمتد نقد الأحكام القضائية لأن يعزى إلى دوافع القضاة، بخلاف تطبيق القانون، فهذا من شأنه أن يجلب سمعة سيئة لإدارة العدالة. إن الإيمان في إدارة العدالة هو أحد الركائز التي تعمل على تشغيل وإستمرار المؤسسة الديمقراطية. ينبغي في السوق الحرة للأفكار، أن يكون انتقاد النظام القضائي أو انتقاد القضاة أنفسهم موضع ترحيب، طالما أن هذا الانتقاد لا يضعف أو يعيق إدارة العدالة. وهذه هي الطريقة التي ينبغي للمحاكم أن تمارس بها الصلاحيات المخولة لها لمعاقبة شخص ما على ازدراء المحكمة، سواء أكان ذلك من تلقاء نفسها، أو بناء على طلب من خصم أو محام. ولذلك، ففي الديمقراطيات فإن القضاة والمحاكم على حد سواء يتعرضون للنقد، وإذا كان النقد مؤسسا على حجة معقولة، أو نقد بلغة محترمة ومقدم باعتدال ضد أي عمل قضائي، بإعتباره مخالفا للقانون أو للصالح العام، فإنه لا يجوز لأي محكمة أن تتعامل مع ذلك النقد باعتباره ازدراء محكمة.”

وعلى الإجمال يبدو أننا في حاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى عمل جدي، بيداغوجي، تواصلي لإعادة بناء مفهوم احترام العدالة في وعي الرأي العام، وتبسيط شرح ميكانيزمات إصدار الأحكام التي تستأثر بالاهتمام، حتى لا يترك فريسة للشعبوية أو ضحية للأوهام.